شماعة أم قناعة
د. محمد نعناع
22/11/2024، 12:40:02 م
كان ماركوس أوريليوس بالإضافة الى كونه إمبراطوراً انطونياً رومانياً كبيراً، كان أيضاً حكيماً وفيلسوفاً رواقياً راقياً، وقلما تجتمع الفلسفة مع السياسة في رجل واحد، وفي "ظاهرة أوريليوس" نفع إتحاد الفلسفة والسياسية بتقوية السلام في روما وخارجها، ونتج عن هذا الإتحاد الممتع مناخ سياسي متوازن قائم على الشفافية والمكاشفة الواقعية، وطفى على سطح الحياة الاجتماعية العامة نوع من الرضا السياسي في إدارة الإمبراطورية، وخُلق هذا المنحى بفعل جهود ماركوس أوريليوس التى فارقت الازدواجية والمكائدية التي طبعت كل بلاطات الأباطرة الرومان فيما سبق بلاط أوريليوس، وساد الانضباط وتوقفت الشعبوية خصوصاً بتجميد الكوليسيوم وألعابه العبثية اللاإنسانية، لكن "الباكس اوغوستا Pax Romana" تراجعت كثيراً بعد أوريليوس، فالطاعون الذي أخذه انتشر على شكل ممارسات إزدواجية ومكائدية من بعده على يد خليفته الامبراطور كومودوس، فالأخير أعاد فتح الكوليسيوم والألعاب الشعبية لحرف انظار العامة عن الإحتياجات الحقيقية للناس، واستخدم الازدواجية السياسية في معاملاته الوظيفية، فتدهورت أحوال الإمبراطورية، وانحرفت الحياة الاجتماعية، وبدل أن يصلح كومودوس أوضاع الإمبراطورية قادته شراهته وفوضويته إلى استبدال الإنجازات السياسية والعسكرية والاقتصادية والفكرية التي حققها أوريليوس بالصخب الشعبي والتضليل السياسي والنفاق الاجتماعي، وسادت التعاملات الازدواجية واستحكمت الشبهات المكائدية، ومنها إتهام الشركاء من السيناتورات والمسؤولين بحياكة المؤامرات على بلاط الإمبراطور، وهذا عين ما يحصل في عراق ما بعد عام 2003 وخصوصاً في مسألة "عودة البعثيين" التي تكررها الأحزاب الاسلاموية التي تمسك بالسلطة وكل مفاصل الدولة، والسؤال هنا: ماذا فعلتم كل تلك الـــ 21 عاماً إذا لم تقضوا على حزب البعث وتنهوا حقبته الديكتاتورية بالكامل، ما الذي ينقصكم؟ وماذا تنتظرون؟أم شأن أخر يدفعكم لعزف هذه السمفونية باستمرار كما كان كومودوس يلهي الشعب بالعاب الكوليسيوم ويخدرهم بالأقاويل المؤامراتية فإنهارت على يديه أو اضمحلت إمبراطورية السلام والرخاء الرومانية!. فهل عودة البعثيين مجرد شماعة لتعليق فشلهم في الإنجازات الحقيقية عليها، أم هي قناعة لها واقع؟!. ومن هذا السؤال نلج إلى الملف الرئيس لهذه المقالة، وهو التعيينات الجديدة في وزارة الخارجية العراقية وبالتحديد في ملف السفراء الذي تعمل الوزارة عليه حالياً، ونبدأه مما بدأنا، وبما سألنا، حيث تعد الوزارة قائمة بأسماء السفراء المراد التصويت عليهم في مجلس النواب وتعيينهم في السفارات والقنصليات، وبالإطلاع على خلفياتهم وتوجهاتهم سترى الكثير منهم تربطهم علاقة بالنظام السابق ومشمولين بقانون المساءلة والعدالة، فهل من يشكو من عودة البعثيين يعيدهم إلى الدرجات الخاصة والمناصب الحساسة مرة أخرى! لقد عانت وزارة الخارجية العراقية طويلاً من ضعف العمل الدبلوماسي، وتكدست فيها شخصيات من محدودي الفهم والخبرة بسبب المحاصصة الطائفية والعرقية، وأحد المبررات التي تبررها قوى الإسلام السياسي لهذا الضعف هو وجود البعثيين في الوزارة وفي السفارات والقنصليات، وحتى لو كان هذا المبرر حجة صحيحة، فاِن هذه القوى الإسلاموية هي من تُشرف الآن على التعيينات الجديدة المليئة بالشبهات، بل هي من تُقصي الكفاءات والخبرات الموجودة في الوزارة، من الذين يستحقون أن يتبوأوا أفضل المناصب ليخدموا بلدهم. وهذا الفعل الذي يتعارض مع القانون ويخلق ازدواجيات متعددة سينتج المزيد من الفشل في عمل الوزارة، فالمفروض أن الوزارة في هذه المرحلة تبتعد عن المحسوبيات وتقترب من تحسين الخيارات الوظيفية، ويأخذ كل ذي حق حقه، وفقاً للقانون ومعايير الكفاءة والخبرة والنزاهة والتاريخ النظيف، وهذا ما لم يحصل في طريقة التعيينات الجديدة، وخصوصاً ازدواجية الشكوى من البعثيين وإعادة تعيينهم مرة أخرى. إن ملاحظات أخرى سجلها المختصون على قائمة السفراء الجدد من شأنها أن تؤشر عدم قانونية هذه القائمة التي يسميها البعض "مسيسة" ومن هذه الملاحظات :
1. في قانون الخدمة الخارجية تم تحديد نسبة 75% من التعيينات في مفاصل الوزارة والسفارات من المتدرجين وظيفياً في الوزارة، ونسبة 25% من حصة القوى السياسية، لكن الذي حصل هو تقاسم جديد بنسبة 50% من داخل الوزارة و50% للأحزاب، وهذا تمدد سياسي مخالف للقانون، ويعزز المحاصصة ويبعد الكفاءات والخبرات، وليس هذا فقط بل حتى أكثر الذين من نسبة 50% والذين تم اختيارهم من داخل الوزارة ينتمون للأحزاب السياسية، واختيار القوى السياسية لهؤلاء خلافاً للمعايير العلمية والتخصصية والفنية المطلوبة.
2. اعتبار منصب السفير الذي هو بدرجة وكيل وزير ليس درجة خاصة، وبالتالي لا تجري عليه قوانين العدالة الانتقالية، بل اعتبروا من هو مشمول بالمساءلة والعدالة مستثنياً منها لأنه متدرج في الوزارة، رغم انه درجة خاصة بدليل وجوب التصويت عليه في مجلس النواب، كما ينص الدستور على ان يصوت على الدرجات الخاصة والمناصب الأمنية الرفيعة من قبل مجلس النواب، وهنا لا نقول فليعزل المشمول بقانون المساءلة والعدالة من العمل أو الوظيفة أو الحياة السياسية، ولكن ننوه إلى إجراءات قانونية يجب أن تطبق على الجميع.
3. تفضيل "مزدوجي الجنسية" على غيرهم من موظفي الوزارة الكفوئين والخبراء المستحقين لمنصب السفير وغيره من المناصب الأخرى في الوزارة، وهذا يتعارض مع إشارات في الدستور والقوانين النافذة لتحجيم ظاهرة الازدواج في الجنسية، بل الانكى من ذلك أن الكثير من عوائل هؤلاء المرشحين تعيش بصفة لجوء في دول أوربية وفي أمريكا، وهذا مؤشر خطير يؤثر على الاستقلالية في الوظيفة وفي العلاقات العامة.
4. الكثير من الأسماء المرشحة في قائمة السفراء، وهم من كبار السن، بنيت ثقافتهم في عهد النظام السابق ولا يقوون على التصدي لأي أعمال مشبوهة في السفارات لأنهم تحت مجهر القوى السياسية الحالية التي تتهمهم بالانتماء للبعث، وهؤلاء من الممكن ابتزازهم بهذه الطريقة وتمرير الكثير من الملفات تحت أنظارهم وهم لا يفعلون شيئاً سوى السمع والطاعة وغض النظر، رغم أن الشخصيات الكبيرة المعتقة بالدبلوماسية هم الأنسب لهذه المناصب وذلك لخبرتهم الطويلة وتعرضهم للعديد من التجارب الدبلوماسية في الكثير من البلدان، فوجود شخصيات ثقيلة بتاريخها وفهمها للعمل الدبلوماسي في المواقع الخارجية يدعم كثيراً فكرة التكنوقراط.
5. في المقابل أيضاً تحتوي قائمة السفراء على مرشحين تم تعيينهم في أعوام 2001 و 2002، وهم محسوبون على بيئة البعث من جهة، ومحميون من أحزاب السلطة الحالية من جهة أخرى، وأخرون صغار جداً بالسن ليس لديهم أي تجارب عميقة في المجالين السياسي والدبلوماسي، واغلب هؤلاء من مرشحي الأحزاب ويبدو أن الهدف من ترشيحهم هو السيطرة عليهم وتمرير تلك الأحزاب لمخططاتها من خلالهم. بالإضافة إلى أن وجود هؤلاء في هذه المناصب والتصويت عليهم في مجلس النواب العراقي يمنحهم فترة صلاحية طويلة الأمد في هذا المنصب، بينما الأفضل هو التدرج الوظيفي واكتساب الخبرة وتأجيل عملية تعيينهم كسفراء إلى ما قبل التقاعد بسنوات قليلة، والأجدى لحل هذه الإشكالية بين كبار السن وصغار السن، هو تغليب التوازن الخبروي والفني في الشخصية وتجاهل الإفراط والتفريط الذي يفرض نفسه في القائمة المعروضة للتصويت في مجلس النواب قريباً.
6. وجود عدد كبير من المرشحين تحوم حولهم الشبهات بقضايا جنائية، وحتى مع عدم ثبوتها على بعضهم، فإن هناك من هو أبعد منهم عن الشبهات، ويستحق المنصب وفقاً للشروط والقيود الفنية والوظيفية، وحتى وفقاً للمعايير والتقييمات الأخلاقية التي حثت المرجعية الدينية عليها في بيانها الأخير عند استقبال المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، فالنخب الواعية التي يجب أن تمسك زمام الأمور غائبة عن هذه القائمة بشهادة المختصين الذين إطلعوا عليها، خصوصاً إن كل القوى السياسية التي تدير الدولة أعلنت تأييدها لما جاء في بيان المرجع السيستاني. ومن خلال تجوال حر داخل عقل النظام السياسي الحاكم سترى أن المحسوبية مستشرية وجلية وواضحة في العملية السياسية، وهي السبب في إجتثاث الكثير من النواب والمسؤولين التنفيذيين، ثم إعادة السماح لهم بالترشح والتعيين في مناصب حساسة، ثم إجتثاثهم من جديد، وهذا الفعل السياسي الازدواجي أربك المشهد السياسي وأعاق بشكل كبير تنمية الوظيفة العامة، ولا علاقة له بتطبيق قوانين العدالة الانتقالية، التي تستخدم كعصا غليظة ضد الخصوم، وهو السبب في ظاهرة شراء المناصب، التي جلبت الدمار على مؤسسات الدولة، فالكل يعرف إن من يشتري منصباً يعمل بكل ما أوتي من قوة لاسترجاع أمواله التي دفعها لشراء المنصب، وهذا لا يتحقق إلا عبر الفساد والابتزاز. لقد ساد في الفترة الأخيرة الكثير من الحديث عن إتهام نواب ومسؤولين تسلموا مسؤوليات كبيرة في الدولة العراقية منذ عشرين عاماً، بأنهم بعثيون ومشمولون بإجتثاث البعث أو ضوابط المساءلة والعدالة، ولكن زعماء الكتل السياسية والقوى الاسلاموية المهيمنة على العملية السياسية تقوم بحمايتهم لأنهم يقوون نفوذها. وهنا سيبدو واضحاً أن الحديث عن عودة البعثيين هو شماعة وليس قناعة، ويكمن الحل لهذا الملف الحساس بتطبيق القانون بعيداً عن الازدواجية، وبعيداً عن المحاصصة والمحسوبيات، ومن حق منظمات المجتمع المدني ومؤسسات الإعلام الحر وكل من له اهتمام بهذا الموضوع أن يُحرج القوى السياسية والحكومة بالتذكير بفقرات القانون التي تحكم مسار إنهاء ملف المساءلة والعدالة وعدم استغلاله من قبل قوى معينة ضد قوى أخرى، وفضح التقلبات الشعبوية المداعبة للمناخات الطائفية المبنية على الدوغما والتضليل الممنهجان، وضبط ملف التعيينات في وزارة الخارجية وغيرها من مؤسسات الدولة بنسق يحترم الخبرات والكفاءات ولا يُفرط بها لصالح الانتماء الحزبي والطائفي ولا يجعلها ضحية للمزايدات السياسية.