التدخل الطارئ... بين الضرورة الإنسانية ومراعاة السيادة
د. إيمان معروف
24/11/2024، 3:41:22 م
لطالما شكّل التدخل الإنساني موضوعًا مثيرًا للجدل في العلاقات الدولية، يتأرجح بين مبدأ إنقاذ الأرواح وحماية الكرامة الإنسانية وتوفير الدعم الطارئ من جهة، واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية من جهة أخرى. مع تصاعد الأزمات الإنسانية والنزاعات المسلحة في العصر الحديث، تتزايد الأسئلة حول طبيعة هذا التدخل: هل هو التزام أخلاقي أم وسيلة لتحقيق أهداف سياسية؟
▪︎ الأبعاد الأخلاقية والقانونية
ينبع التدخل الإنساني أساسًا من مبدأ عالمي يضع الكرامة الإنسانية فوق أي اعتبار آخر. ينص هذا المبدأ على أن حماية الأرواح البشرية من الانتهاكات الجسيمة والجرائم المروعة ليست مجرد خيار، بل واجب أخلاقي على المجتمع الدولي. وقد جرى تقنين هذه الفكرة أساساً من خلال مبدأ "مسؤولية الحماية " (R2P)، الذي أقرته الأمم المتحدة في قمة العالم عام 2005، ويمثل تحولًا كبيرًا في مفهوم السيادة الوطنية، إذ يجعل السيادة مشروطة بقدرة الدولة على حماية مواطنيها.
- البعد الأخلاقي: ويعتبر التزام عالمي ينسجم والقيم الأخلاقية مثل العدالة، الرحمة، وحماية الحقوق الأساسية التي تشكل المبرر الأساسي للتدخل الإنساني. عندما تعجز دولة ما عن حماية شعبها أو تكون نفسها مصدر التهديد، يُنظر إلى التدخل على أنه واجب لا يمكن التغاضي عنه. فالإبادة الجماعية في رواندا عام 1994 مثال مأساوي على غياب التدخل، حيث قتل أكثر من 800,000 شخص في حين اكتفى المجتمع الدولي بالمراقبة. أدى هذا الإخفاق الأخلاقي إلى إجماع دولي على ضرورة التحرك الاستباقي لمنع تكرار مثل هذه المآسي.
- البعد القانوني: حيث يتشكل الإطار التنظيمي للتدخل قانونيًا، ويرتبط التدخل الإنساني بتفسيرات حديثة لميثاق الأمم المتحدة، لا سيما المادة 39 التي تمنح مجلس الأمن صلاحيات لاتخاذ التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين. وتبرّر التدخلات الإنسانية غالبًا تحت البند السابع من الميثاق، والذي يسمح باستخدام القوة العسكرية إذا تهدد السلم العالمي أو انتُهكت حقوق الإنسان على نطاق واسع. في الوقت ذاته، طورت الأمم المتحدة مفاهيم جديدة لتجاوز سيادة الدولة التقليدية، حيث أكد مبدأ "مسؤولية الحماية". أن السيادة لم تعد حقًا مطلقًا، بل مسؤولية تقتضي حماية المواطنين من الفظائع الكبرى. فعلى سبيل المثال، التدخل في كوسوفو عام 1999، رغم عدم حصوله على تفويض أممي صريح، استند إلى هذا المبدأ باعتباره ردًا على الجرائم المروعة التي ارتكبت ضد المدنيين. ثمة أمثلة معاصرة تُبرز البعدين الأخلاقي والقانوني كما في ليبيا 2011 عندما جرى التدخل العسكري تحت مظلة قرار مجلس الأمن رقم 1973 لحماية المدنيين من حملة القمع العنيفة التي شنها النظام آنذاك. وعلى الرغم من أن التدخل أثار جدلًا بسبب نتائجه، فقد أظهر التطبيق العملي لفكرة مسؤولية الحماية. كذلك في البوسنة والهرسك (1992-1995) كانت الفظائع التي ارتكبت ضد المسلمين البوسنيين، بما فيها مجزرة سربرنيتسا التي قُتل فيها أكثر من 8,000 رجل وصبي، مثالًا مؤلماً على العجز الدولي عن التدخل المبكر. ساعد هذا الفشل في دفع المجتمع الدولي لتطوير نهج أكثر صرامة للتدخل الإنساني. لجعل التدخل الإنساني أكثر فاعلية وأقل جدلية، من الضروري تحسين البنية القانونية والتنظيمية القائمة. الأمر الذي يتطلب تطوير آليات دولية تتسم بالشفافية والاستقلالية الفعلية عن المصالح الجيوسياسية. علاوة على ضرورة تعزيز دور المنظمات الإقليمية كالاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي في تنفيذ التدخلات الإنسانية بما يتفق مع الخصوصيات المحلية والقواعد الدولية شرط تحقيق التوازن بين واجب حماية البشر ومبدأ سيادة الدول والحفاظ على الكرامة الإنسانية وتعزيز العدالة العالمية.
▪︎ سيادة الدول في خطر
لطالما مثّلت سيادة الدول مبدأً أساسيًا في النظام الدولي، وهو المبدأ الذي يضمن لكل دولة حقها في إدارة شؤونها الداخلية دون تدخل خارجي، كما ينص ميثاق الأمم المتحدة في المادة 2 (الفقرة 7). ومع ذلك، يبرز التدخل الإنساني كاستثناء يُثير تساؤلات حول حدود هذا المبدأ، لا سيما عندما يُبرر استخدام القوة بحجة حماية حقوق الإنسان. بينما يرى البعض أن التدخل الإنساني ضرورة أخلاقية، يعتبره آخرون انتهاكًا صارخًا للسيادة الوطنية وأداة تخفي خلفها أجندات جيوسياسية ومصالح اقتصادية. التناقض بين السيادة والمسؤولية الإنسانية السيادة كانت دائمًا حجر الزاوية في النظام العالمي، حيث تُجسّد الحصن الذي يحمي الدول من التدخل الخارجي. وفقًا لهذا المبدأ، لا يُسمح لأي دولة أو منظمة بالتدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، حتى لو ارتُكبت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان داخل حدودها. ومع ذلك، برزت مفاهيم حديثة مثل "السيادة المشروطة" و"مسؤولية الحماية" لتعيد تعريف حدود السيادة، مؤكدة أن الدول التي تفشل في حماية شعوبها تفقد جزءًا من شرعيتها السيادية. ومن الأمثلة البارزة على انتهاك السيادة باسم التدخل الإنساني ما جرى في العراق (2003) حين انحرف مفهوم التدخل الإنساني عن غاياته المعلنة. رغم تبرير الغزو الأمريكي للعراق بحماية الشعب العراقي من نظام صدام حسين، إلى أن كشفت الأحداث اللاحقة عن مصالح استراتيجية تتعلق بالنفط وإعادة تشكيل خريطة النفوذ في المنطقة. أدى التدخل إلى نتائج كارثية، بما في ذلك مقتل أكثر من 200,000 مدني، وخلق فراغاً سياسياً خطيراً. كذلك في ليبيا (2011) حيث تطور التدخل الذي بدأ بقرار أممي تحت البند السابع لحماية المدنيين من القمع الحكومي إلى تغيير النظام، مما أثار تساؤلات حول الدوافع الحقيقية للتدخل. بعد عقد من التدخل، تعاني ليبيا من حالة فوضى سياسية وأمنية، مع وجود أكثر من 2.8 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية وفق تقارير الأمم المتحدة. تُظهر التجارب السابقة الدوافع الخفية للتدخل الإنساني وأنها غالبًا ما يكون أداة لتحقيق أهداف تتجاوز حماية حقوق الإنسان. من أبرز هذه الأهداف المصالح الاقتصادية كالسيطرة على الموارد الطبيعية كما في العراق، حيث قُدرت احتياطيات النفط بـ115 مليار برميل، مما جعلها محورًا للاهتمام الدولي. كما أن الموقع الجغرافي الاستراتيجي يؤكد أهمية التدخل في مناطق مثل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتنافس بين القوى الكبرى. كما أن التدخلات غالبًا ما تكون وسيلة لإعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية، كما حدث في يوغوسلافيا السابقة خلال التسعينيات. تتلخّص النتائج السلبية للتدخل الإنساني على سيادة الدول بزعزعة الاستقرار الإقليمي وزيادة التحديات الأمنية والإنسانية. علاوة على إضعاف الدولة الوطنية فالتدخلات كثيرًا ما تترك الدول المستهدفة في حالة ضعف وانقسام داخلي يفتح الباب أمام التدخلات الأجنبية المستمرة. وعلى الرغم من أن التدخل يهدف إلى حماية المدنيين، فإن نتائجه على الأرض غالبًا ما تكون معاكسة. في العراق، على سبيل المثال، تشير الإحصائيات إلى نزوح أكثر من 4.1 مليون شخص بسبب الصراع. لا بدّ من تطبيق تنظيم صارم على التدخلات الإنسانية لمعالجة هذه السلبيات، وأن يقوم التدخل الإنساني وفق قواعد دولية واضحة. يجب أن يخضع لإشراف أممي صارم لضمان توافقه مع القوانين الدولية وعدم تحوله إلى أداة لتحقيق مصالح خاصة. كما يجب أن يكون التدخل الخيار الأخير بعد استنفاد جميع الوسائل الدبلوماسية والاقتصادية.
▪︎ ازدواجية المعايير
من أكثر الانتقادات شيوعًا تجاه التدخل الإنساني افتقاره إلى الشمولية والاتساق، حيث يتسم بوجود ازدواجية واضحة في تطبيقه. ففي حين يُفترض أن يكون التدخل الإنساني مدفوعًا باعتبارات أخلاقية بحتة لحماية الأرواح وإنقاذ المجتمعات من الانهيار، فإن الواقع يكشف أن القرارات المتعلقة بالتدخل غالبًا ما تُحددها مصالح استراتيجية وجيوسياسية للدول القوية، وليس الضرورات الإنسانية. هذه الازدواجية تُثير تساؤلات حول مصداقية هذا النوع من التدخل، وتضعف ثقة الشعوب في المجتمع الدولي كضامن للعدالة الإنسانية. ثمة أمثلة واضحة على التدخل بناءً على المصالح الاستراتيجية منها :
- كوسوفو (1999): التدخل السريع بقيادة الناتو ضد الصرب خلال حرب كوسوفو يُظهر مدى أولوية المناطق ذات الأهمية الجيوسياسية للدول الكبرى. رغم أن الحملة نُفذت بذريعة حماية الألبان الكوسوفيين من الإبادة، فإن موقع كوسوفو في قلب أوروبا وحاجة الغرب إلى استقرار المنطقة جعلا التدخل أولوية.
- دارفور (2003-2010): في المقابل، استمر النزاع في إقليم دارفور بالسودان عقداً كاملاً تقريبًا دون استجابة دولية فاعلة، على الرغم من مقتل حوالي 300,000 شخص ونزوح الملايين. عدم وجود مصالح استراتيجية كبيرة في السودان آنذاك ساهم في غياب الإرادة الدولية للتدخل.
- اليمن (2015 حتى الآن): الحرب في اليمن التي وصفتها الأمم المتحدة بـ"أسوأ أزمة إنسانية في العالم" لم تُقابل بتدخلات إنسانية كبيرة، حيث تجاوز عدد القتلى 377,000 شخص وفق تقارير الأمم المتحدة، مع تفاقم المجاعة وانتشار الأوبئة. غياب المصالح الاقتصادية والجيوسياسية المباشرة هنا أضعف التحرك الدولي. تُظهر ازدواجية في اختيار التدخلات الإنسانية المعايير المزدوجة لتدخل القوى الكبرى لإجل التدخل حين تكون هناك مكاسب مباشرة، مثل السيطرة على الموارد أو تعزيز النفوذ السياسي. هذا الانتقائية يمكن ملاحظتها في الشرق الأوسط حيث تلعب الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز دورًا حاسمًا. كذلك في أفريقيا جنوب الصحراء نلاحظ غياب التدخلات الكبيرة رغم المعاناة الإنسانية الواسعة بسبب ضعف الأهمية الاقتصادية لهذه المناطق في حسابات الدول الكبرى. إنّ ازدواجية المعايير تُقوّض شرعية التدخل الإنساني على عدة مستويات وتؤدي إلى تآكل الثقة بالمجتمع الدولي وإضعاف القانون الدولي وتشجيع الأنظمة القمعية في غياب الاستجابة الدولية مثلما حدث في ميانمار مع أزمة الروهينغا. لمعالجة هذه الازدواجية، لا بدّ من إصلاح النظام الدولي للتدخل الإنساني بما يضمن حياديته وعدالته من خلال إرساء إطار قانوني موحد يعتمد معايير صارمة وشفافة تُلزم المجتمع الدولي بالتدخل في أي أزمة إنسانية كبرى بغض النظر عن المصالح الاستراتيجية، وتعزيز دور الأمم المتحدة لضمان نزاهة القرارات. إلى جانب التركيز على الوقاية واستثمار المزيد في آليات منع الأزمات، مثل التنمية المستدامة والوساطة الدبلوماسية، لتقليل الحاجة إلى التدخلات العسكرية. وأيضاً التخلص من الانتقائية.
▪︎ الموازنة بين الأخلاق والسياسة
إيجاد التوازن بين البعدين الأخلاقي والسياسي في التدخل الإنساني يمثل تحديًا رئيسيًا في النظام الدولي. فعلى الرغم من أن حماية المدنيين وضمان حقوق الإنسان تمثل أهدافاً نبيلة، فإن التدخل الإنساني غالبًا ما يتشابك مع المصالح السياسية للدول الكبرى، ويخلق تعقيدًا يصعب حله. لتحقيق هذا التوازن، ويتطلب الأمر إطارًا دوليًا متينًا يضمن الالتزام بالمبادئ الأخلاقية بعيدًا عن استغلال التدخل كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية. إنّ حماية الأرواح البشرية ومكافحة الجرائم الكبرى مثل الإبادة الجماعية والتطهير العرقي واجب أخلاقي لا يقبل المساومة. ومع ذلك، على الصعيد السياسي، تسعى الدول إلى حماية مصالحها الاستراتيجية، سواء كانت اقتصادية، جيوسياسية، أو عسكرية. هذا الصراع بين الأخلاق والسياسة يظهر جليًا في الأزمات الدولية ففي كوسوفو (1999) وعلى الرغم من التدخل السريع بحجة حماية الألبان من الانتهاكات الصربية، فإن موقع كوسوفو الاستراتيجي في أوروبا جعل من التدخل أولوية غربية.
▪︎ الحلول الممكنة لتحقيق التوازن
الالتزام بالشرعية الدولية بحيث يخضع أي تدخل إنساني لتفويض واضح من مجلس الأمن الدولي لضمان النزاهة والحيادية. على سبيل المثال، يمكن أن يكون التدخل في ليبيا (2011) أكثر قبولًا في حال الالتزام بالإشراف الدولي وعدم تجاوزه إلى تغيير النظام. وبهدف الوصول الى الحلول الكفيلة بتحقيق التوازن يمكن مراعاة مايلي :
- التدخل كملاذ أخير: لا ينبغي اللجوء إلى التدخل العسكري إلا بعد استنفاد جميع الخيارات الأخرى، مثل العقوبات الاقتصادية، الوساطات الدبلوماسية، أو دعم منظمات الإغاثة. تجربة الوساطة الناجحة في جنوب السودان عام 2005، التي أسفرت عن توقيع اتفاقية السلام الشامل، تبرز أهمية الحلول السلمية قبل التفكير في القوة العسكرية.
- تعزيز الوقاية من الأزمات: التركيز على الوقاية كجزء من التدخل الإنساني يمكن أن يُجنب العالم الكثير من الكوارث. تُظهر الدراسات أن الاستثمار في التنمية المستدامة والتعليم والبنية التحتية في الدول النامية يقلل إلى حد كبير من احتمالية نشوب النزاعات المسلحة. على سبيل المثال، وفق تقرير للبنك الدولي، فإن خفض الفقر بنسبة 10% يرتبط بانخفاض النزاعات بنسبة 20%.
- مشاركة دولية متوازنة: لضمان توازن التدخلات، يجب أن تكون القرارات الدولية أكثر شمولية. إشراك المنظمات الإقليمية والدولية مثل الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية يمكن أن يُعزز من مصداقية التدخلات ويُقلل من الاحتكار الغربي للقرار.
التدخل الإنساني لا يعني دائمًا استخدام القوة العسكرية. فبالإمكان أن تؤدي الوساطة الدبلوماسية والضغط السياسي دورًا فعالًا في معالجة الأزمات دون انتهاك سيادة الدول. ففي ميانمار 2015-2017 أسفر الضغط الدولي والجهود الدبلوماسية عن الحد من اضطهاد الروهينغا، وعلى الرغم من أنها لم تحقق نجاحًا كاملًا، لكنها أكدت أهمية السبل الدبلوماسية في إثارة القضايا الإنسانية عالميًا. ولضمان التوازن بين الأخلاق والسياسة، يجب مراعاة احترام سيادة الدول مع الالتزام بمسؤولية الحماية. تحقيق هذا التوازن يتطلب مقاربة شاملة تعتمد على حلول مستدامة، تضمن تقديم الدعم اللازم للدول بدلًا من اللجوء للتدخل العسكري. فمثلًا، دعم إعادة الإعمار في رواندا بعد الإبادة الجماعية كان أحد أهم العوامل التي ساهمت في استعادة الدولة استقرارها.
إن التحدي الأكبر أمام التدخل الإنساني يكمن في تحوله إلى أداة عادلة وحيادية تخدم القيم الإنسانية العالمية. لضمان تحقيق هذا الهدف، يجب أن يكون التدخل مدفوعًا فقط بحماية الكرامة الإنسانية، وأن يتجنب تمامًا أن يصبح أداة سياسية في يد القوى الكبرى. إنشاء آليات دولية شفافة ومستقلة سيسهم في بناء نظام عالمي أكثر عدالة، يُوازن بين الأخلاق والسياسة على نحو يخدم السلم والأمن الدوليين.