القهر العقلي بوصفه أقدم الجرائم الإنسانية
غنوة فضة
25/11/2024، 1:01:33 م
تصويرُ العقل البشري كآلةِ استجابةٍ أتوماتيكية موضوعٌ اهتم فيه الباحثون والمفكرون. وهذا التحولُ، مكنَ ولا يزال يمكن، تحقيقهُ من خلال بعض الثورات الثقافية في المجتمعات، وكذلك من خلال التجارب سواء لأجل غايات سياسية أو أيديولوجية على حد سواء.
لذا فإن موضوع اغتصاب العقل أو ما يسمى بالقهر العقلي يعتبر من بين أقدم الجرائم في تاريخ الحضارة الإنسانية، ولربما تعود بداياته إلى أيام ما قبل التاريخ حين اكتشف الإنسان، ولأول مرة، أنه يستطيع استغلال الصفات الإنسانية لأجل التعاطف والتفاهم، ولغاية ممارسة السلطة على إخوانه من البشر.
وقد صور كتاب "اغتصاب العقل" للباحث والطبيب الهولندي جوست موريتس ميرلو (1903-1976) الغزو الذهني والسلب العقلي على أنها مرادفاتٌ لكلماتٍ معاصرة مثل غسل الأدمغة، وتشويه العقل بشكل متعمد. وهي في الوقت ذاته تصويرٌ فعلي للطرق التي يمكن من خلالها انتهاك سلامة الإنسان. وهكذا فإن منحَ ممارسةٍ ما أو سلوكٍ متعمّد اسمه الصحيح فإنه من الممكن لاحقاً التعرف عليه بسهولة أكبر. ومع ذلك فإن هذا الاعتراف يبقى مجرد فرصة للتصحيح المنهجي لمثل تلك السلوكيات الإجرامية. وتدور في الكتاب مناقشات هامة حول بعض المخاطر الوشيكة التي تهدد مسألة التفاعل الثقافي الحر. إذ يؤكد الباحث على الآثار الثقافية لموضوع الاقتحام العقلي القسري. ولذلك فإن التقنيات المصطنعة للإكراه ليست مهمة فقط، بل إن ما يثير هو التدخل غير المزعج في سلوكياتنا وأفكارنا. وهو ما يدفع إلى مقارنة خطر تدمير الروح بخطر الدمار المادي الكلي. وفي الواقع فإن الأمرين متشابكان إلى بعضهما البعض. فما الذي يدفع مجموعة من الآباء يفرحون لمقتل أبنائهم فداء لأيديولوجيا معينة؟ ولماذا نثني على من يشجع على الموت لأجل غايات سياسية؟ تلك الأفكار الشمولية التي يساعد على تمكينها كل من الإعلام ورجال الدين، تقود الجموع لمنعها من المساءلة أو الثورة على المسببات التي تدفع للموت أو الظلم وتحويلهم بالتالي إلى جماعات من الضحايا. هكذا يساعد الفكر الشمولي بداعمَيه؛ الإعلام ورجال الدين، على دفع صديقٍ لكتابة تقرير يودي بحياة صديقه. أو نجد جاراً يُرضي زعيماً عبر دفع أقاربه إلى الجحيم. والسؤال هنا هو كيف يساهم الإعلام في اغتصاب العقول؟ والواقع إن السلطة الشمولية بحاجة إلى إعلام من نوع متملق يساير اتجاهها الفكري؛ أي يصدق الأكاذيب ويكذّب الحقائق. ومنه تستمد تلك السلطة اتجاهاً يسير في مصلحة الحاكم، ويتوجه بسمومه إلى عامة الشعب. الأمر الذي يقود إلى مجموعة من المتملقين مثلما يصفهم وزير الدعاية الألماني جوزيف غوبلز (1897-1945) في قوله: "أعطني إعلاماً بلا ضمير أعطيك شعباً بلا وعي". وهو ما يدفع إلى تزييف الوعي والمبالغة في إظهار إنجازات السلطة، وتحويل الهزائم إلى انتصارات لغاية اغتصاب العقول وتسهيل قيادتها. أكاذيبٌ فوق أكاذيب؛ هكذا يعتقد ميرلو أنه من خلال الضغط على نقاط الضعف في التكوين الإنساني يمكن للوسائل الشمولية أن تحوّل أي شخص إلى خائن. ويحاول في الوقت ذاته أن يطبق عملية التحول الغريبة التي تطرأ على عقل الإنسان الحر لتصبح آلة استجابة. فالجستابو مثلاً؛ اتبع أساليب التعذيب للإجبار على خيانة الأصدقاء. وقد انتشرت أخبارٌ عن إعطاء ألمانيا طياريها الكوكايين لاستخدامه في حال شعروا بالإرهاق في أثناء القتال، وذلك لغاية تنشيط الجسد وتقليل الشعور بالألم، لكنه في الوقت ذاته وسيلة تصيب العقل بالتبلد وتسهّل خداعه. وعلى مر التاريخ كان لدى البشر فهمٌ حدسيٌّ بإمكانية التلاعب بالعقل سواء عبر طقوس من النشوة، أو الأقنعة المرعبة والضوضاء الصاخبة. وقد استخدمت تلك الأساليب لترغم الحشود على القبول بمعتقدات قادتهم. حتى وإن قاوم شخص عادي في البداية، فإن التنويم المغناطيسي يحطم إرادته تدريجياً.
يقول ميرلو: "إن الإنسان كان مبدعاً في تطوير وسائل تلحق الأذى بأخيه الإنسان، وبشغف هائل اخترع تقنيات تبعث الألم في أضعف أجزاء الجسد". وإلى جانب إبادة العقل كجريمة قديمة، إلا أنها مؤخراً اتخذت شكلا منهجياً. إذ أصبحت نظاماً متماسكاً للتدخل النفسي والانحراف القضائي. وبات للمستبد القوي إمكانية لأن يطبع أفكاره الانتهازية الخاصة في أذهان من يخطط لاستغلالهم وتدميرهم. وفي النهاية يجد الضحايا المروَعون أنفسهم مجبرين على التعبير عن الانصياع التام لرغبات الديكتاتور. وكثيراً ما يشار إلى براعة الشموليين في إثارة الشعور بالذنب الخفي. وعلى الرغم من كون الشمولي يهاجم تماهي الأفراد مع قادتهم بالتقليل من شأنهم؛ إلا أن في ذلك استغلالاللسمة النقدية الخفية بداخل كل إنسان تجاه كافة القادة. ففي بعض الأحيان يستخدمون استراتيجية الملل لإغراء الناس بالنوم. وقد يرغبون في جعل العالم الغربي مثلاً يدخل في حالة من التنويم تحت تأثير وهم التعايش السلمي؛ بحيث إن كل استراتيجية سياسية تهدف إلى إثارة الخوف والشك، وتميل إلى عزل الشخص غير الآمن إلى أن يستسلم لتلك القوى التي تبدو له أقوى من أصدقائه السابقين. لذا فإن ميرلو يقول: "لأن من يمتلكون أفضل الاستراتيجيات اللفظية وأقواها في خضم معارك الجدال يميلون إلى الفوز". ينظم الشموليون تدريبات جدلية لئلا يخرج الخاضعون لهم أفضل ما لديهم. كما يحاولون فعل الشيء نفسه مع بقية العالم بطريقة أقل تطفلاً. لذا لا بد من التعلم ومعرفة كيفية مواجهة وابل الكلمات المنهكة بتدريب أفضل. إن التحليل السيكولوجي للقائمين على النظم الشمولية يظهر بوضوح أن الثقافة المرضَيّة عالمٌ مجنون يمكن بناؤهُ من خلال أنواع عصابية معينة. فالرموز السياسية القابلة للرشوة ليست بحاجة إلى استيعاب العواقب الاجتماعية والسياسية لتصرفاتهم. إنهم ليسوا مجبرين بعقيدة فكرية مهما كانت مسوغاتهم، لكن ما يجبرهم هو تشوهات شخصياتهم. فهم غير مدفوعين لخدمة أوطانهم أو البشرية، بل بالحاجة الماسة والقهرية لإشباع الحنين داخل بنى شخصياتهم المريضة. لذا فإن أي شكل من أشكال القيادة إذا لم يخضع للتحكم والسيطرة، سيتحول تدريجياً إلى ديكتاتورية. فالحاكم فيه هو ذلك الشخص الذي يستعيض عن معايير العدالة والأخلاق بالمزيد والمزيد من الهيبة الشخصية، ومن السلطة نفسها. وفي النهاية يعزل نفسه أكثر عن باقي البشر لتبدأ حلقة مفرغة من التصرفات السلطوية بالاتساع.
واستخدامُ الطغاة للإرهاب سلاحٌ قديمٌ، وما تحويلهم البشر إلى أدوات طيعة في دولة (توتاليتاريا) سوى تحكمٌ بوساطة الإرهاب والترهيب، حيث يُفضَّل الولاء بدافع الخوف على الولاء بدافع الإيمان. ومنه يُجمَّد العقل والإرادة. وتنتج حالة من الشلل النفسي العام. وبفضل الألم الذي يسببهُ الإرهاب الشمولي، تكون الدولة في حالة تأهب عام لرصد المخطئين الاجتماعيين، مثل منتقدي النظام، أو الاتهام بالمخالفة للإدانة في أعين العامة. وفي تلك الحالة يشارُ إلى أن التلميح والغيبة والنميمة هي الركائز الأساسية للاستراتيجية الشمولية. لذا فإن البوليس السري يضطلع بمهمة الفزع والهلع داخل الدولة، في حين يعمل الجيش على إثارتهما خارجها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الخيال والتشويش يحلان محل الحقائق. إذ يتم تعليم الناس الكذب بمنهجية، ويعاد تشكيل التاريخ، وتحاك أساطير جديدة لها غرضان: أن تقوي وتمدح القائد الشمولي، وأن تربك مواطن الدولة عديم الحظ. وهو ما يقود إلى إبادة الأفكار، وبالتالي إبادة الكلمة ويوصي ميرلو إلى أهمية كتاب (بايفيلد) والذي نشر تحت عنوان (إبادة الكلمة) إذ يشير إلى استخدام الكلمات كأهم أداة من أداوت الثورات الاجتماعية. فالشموليون يضلعون بنسج لغة قوامها الكراهية، وذلك لتقليب مشاعر الجماهير. والسياسيون الذين يسعون إلى السلطة يصكون مسميات جديدة لها جاذبية انفعالية مؤثرة. ويؤكد على أن تأثير الألفاظ في التفكير الشمولي، وإبادة الكلمة يعمل على إزعاج عقل المواطن الحر وخنقه. لذا فإن إبادة الكلمة يمكن أن يحول المواطنين حسب ما يدعوه علم النفس إلى (جهلاء الرموز). إذ يكون الناس قادرين فقط على المحاكاة، وغير قادرين على الإحساس بالموضوعية التي تؤدي إلى الاستفسار والفهم. لذا فإن المواطن يصبح (ببغاء) يكرر الشعارات المعلبة، والكلمات الدعائية بدون فهم لما تعنيه حقا. إلا أن هذه الببغاوية تعطي المواطن في دولة الشمولية متعة انفعالية وطفولية، وهي تقدم له نوعاً من المتعة الصوتية التي يحققها الطفل من خلال الثرثرة والصياح. ويقود الحديث عن استلاب الجماهير واغتصاب العقول، إلى الحديث عن معضلة الحرية. فمن أجل نمو الحرية لا بد من التخطيط للسيطرة على القوى التي تحد من حريتنا. لذا لا بد من التحلي بالعاطفة والحرية الداخلية لاضطهاد من ينتهكون الحرية، وبالحيوية لمهاجمة من يرتكبون الانتحار الذهني والقتل البدني. لذا فإن الحماسة للدفاع عن حرية الفرد، وقيم التسامح لا يعني التسامح مع من يستغلون تلك القيم السامية بغية تدميرها. بل الأهم ألا نتسامح مع الانتهاكات الفكرية منها وهو ما يؤكده الباحث عبر الاهتمام بدور علم النفس، وضرورة تطوير الدراسات والأبحاث فيه؛ والعمل على بناء فردٍ محيط ٍبالأطر النقدية، وقادرٍ على مواجهة وتفنيد كافة أساليب التلاعب والخضوع الذهني.