مستقبل الأموال العامة في ظل حكم... "مجهول المالك" -1-
د. محمد نعناع
27/11/2024، 11:43:22 م
قبل أن نبدأ بالموضوع الأساسي لهذه المقالة نبين مسألتين مهمتين:
الأولى: هذه المقالة ليست مقالة شرعية أو فقهية بل هي مقالة فكرية سياسية تبحث في بناء الدولة المدنية.
الثانية: ما نتحدث عنه في هذه المقالة ليس مطلق مجهول المالك، بل فقط ما يتعلق بحكم أموال الدولة عند الفقهاء، وكيف يفهم أتباعهم ذلك الحكم، ولربما نلامس بعض المسائل العامة من أجل الإضاءة أكثر على الموضوع، ومنها منشأ هذا الحكم الشرعي، وكيفية صياغته في الجو الفقهي وفرضه في المناخ السياسي، ومرجعياته التراثية، لكن دون الإسهاب والإطناب، بل للاستدلال فقط. وملخص هاتين المسألتين هو أننا لا نريد أن نعرف إلا ما يتعلق بتأثير حكم شرعي معين هو "مجهول المالك" في السياسة العامة واقتصاد الدولة، وفي حركة المجتمع المعيشية، وتأسيس مافيات نهب المال العام، ومكافحة الفساد، وبعد ذلك نقيم الضرر الناتج عن هذه الفكرة الدينية، ومدى إمكانية إيجاد الحلول المناسبة لتلافي تغول هذه الفكرة اللاهوتية المهيمنة على العقليات السياسية الفاسدة.
▪︎ ماذا يعني "مجهول المالك"؟
هو مصطلح شرعي يطبق بشكل فقهي واسع على أنواع متعددة من الأموال، ويقابله "معلوم المالك". وهنا يكون لدينا نوعان من الأمول: (مال معلوم المالك ومال مجهول المالك). ومنشأ هذا الحكم هو الاستناد على الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت والموجودة في الكتب الأربعة المعتبرة، ومنها الكافي للشيخ محمد بن يعقوب الكليني وتهذيب الأحكام للشيخ أبو جعفر محمد الطوسي، وقد راجعنا هذين الكتابين على وجه التحديد فوجدنا أنهما أساس الروايات التي تقول بأن "الأرض للأئمة من أهل البيت استناداً إلى أنهم هم الخلفاء الأصليين والرؤساء الشرعيين للأمة الإسلامية" وبهذا سيكون المال لهم من باب أولى، وهذا الحكم مرتبط كما نلاحظ بالقضية الأساسية في العقيدة الاثني عشرية وهي "الولاية" فإذا كان أساساً للائمة من آل البيت ولاية تكوينية، أي التحكم بالكون والطبيعة – حسب المشهور الكلامي والعقائدي - فبالتأكيد سيكون لهم تسلط على المسلمين في أموالهم وسائر ممتلكاتهم، وبذلك تتقلص مساحة المال معلوم المالك لصالح المال مجهول المالك.
▪︎ أنواع الفقه الشيعي
وعندما نتحدث عن "التطبيق الفقهي" للحكم، فأننا نتحدث عن جانب المعاملات في الفقه، أو الفقه العملي، وهو يختلف عن الفقه الفردي أو الابتلاء في موارد فردية واضحة تحكمها قواعد عامة، أو تطبق وفقاً للعناوين الأولية، ولنا بهذا الخصوص تقسيم خاص للفقه، وهو مهم في مسألتي الموقف من الدولة المدنية، والحرية الشخصية، وهو كالتالي:
- الفقه الفردي، وهو الحكم الأولي الواضح الذي يطبقه الفرد المسلم ولا يحتاج الرجوع فيه للفقيه، كالواجبات والمحرمات الأصلية، التي تحكمها نصوص جلية قطعية، كوجوب إقامة الصلاة وحرمة الزنا وحرمة شهادة الزور. ولا يصدر من الفقهاء بخصوص هذا النوع من الفقه إلا الإرشاد والوعظ والتثقيف للحث على الالتزام بالدين.
- الفقه الاجتماعي، وهو تطبيق الحكم الشرعي على الفرد أو الجماعة، كمنع المحرمات على نطاق مجتمعي عبر وسيلتي القوانين أو جماعات الضغط. وهنا يستلزم هذا الفقه سلطة لتطبيقه، فالانتقال من الفقه الفردي إلى الفقه الاجتماعي عبر نمطية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو عبر قاعدة النيابة عن الامام، توجبان ممارسة المنع للحكومة أو الفقيه، وهنا قد ينشأ نوعان من التعارض، الأول: تتعارض سلطة الفقيه حسب منطق الفقه الاجتماعي مع سلطة الدولة، والثاني: تتعارض مع فلسفة بناء الدولة، وبالتحديد مع هوية الدولة المدنية التي تقدس الحريات المنضبطة.
- الفقه الخاص، وهو فقه الاستثناءات والتراخيص للأفراد بالعمل خلاف القواعد العامة نتيجة الظروف التي تفرض على فرد معين دون غيره، وهو مساحة من السلطة يمارسها الفقيه أو الحاكم الشرعي (المجتهد الجامع للشرائط) في حدود ما يراه مناسباً وأتاح له نظره في المصادر الشرعية التي يستنبط منها الحكم الشرعي، أو يفتي على أساسها، وفي بعض الأحيان يستحسن عقلائياً في ضوء سيرة المتشرعة إذا لم يجد نصاً يسند فتواه الخاصة، وأكثر ما نقصده هنا هو في مجال الإباحة وليس الاضطرار، يعني إباحة شيء للمكلف بدلالة السلطة الممنوحة للفقيه، ولا نرادف في هذا المجال مفردتي "الشخصي" و"الخاص" فهما لا يعطيان نفس المعنى بالنسبة لما نفكر به من نتيجة لمسألة "مجهول المالك" فالشخصي هو شأن الفرد فيما يعمله من أمور شخصية هو فقط يعرف حكمها كبطلان وضوءه، فالفقيه يقول له في الرسالة العملية توضئ هكذا، وهو يتوضأ مرة بشكل صحيح ومرة بشكل خاطئ، فهذا شأن شخصي لا يتابعه الفقيه، والذي يعرف في كل مرة صحة وبطلان وضوئه هو المكلف وحده، اما "الفقه الخاص" فهو ما يرخصه الفقيه لمرة واحدة أو عدة مرات لفرد واحد بعينه، وليس بالضرورة أن يرخصه لفرد أخر، أو يرخصه الفقيه في منطقة جغرافية أو في ديمغرافيا محددة دون غيرها، وعادة يكون هذا الترخيص خلافاً للمباني الأصولية للفقيه، أو تسامحاً فيها، وعادة أيضاً يورث هذا الترخيص خلافاً بين الفقهاء، فبعضهم يقفز على مبانيه الأصولية والفقهية ويحرر أحكاماً جديدة، والبعض الأخر يثبت على المباني أو القواعد الأساسية المؤصِلة للحكم الشرعي الأولي، وبعضهم يبتكر طرقاً للتفريع من الحكم الأولي، وهذا هو ما نبحثه ونركز عليه في هذه المقالة.
▪︎ موقف الفقهاء من أموال الدولة
قبل التعريف بمواقف وآراء الفقهاء بخصوص "أموال الدولة" لنعرف بمواقفهم من الدولة كوحدة سياسية معاصرة، فالفقهاء منقسمون بين عدم مشروعية الدولة، وبين مشروعية قيامها، وبين رعاية الفقهاء كنواب للإمام لها، وبين احترامها والتعاطي معها كأمر واقع، وهذا الأخير يتفرع منه الالتزام بقراراتها ما دامت تحفظ الأمن العام، وفي الغالب أو المشهور هو أن الفقهاء لا يبادرون إلى إقامة الدولة، وهذا ما يجعلهم في الغالب يعتبرون أي أمول للدولة هي "أموال مجهولة المالك" ولكن هذا لا يعني أنهم يسمحون بالسطو عليها وسرقتها.
وبشكل عام تنقسم آراء الفقهاء حول أموال الدولة إلى ثلاثة أقسام :
1- الرأي الأشهر على الإطلاق هو أن أموال الدولة مجهولة المالك، وهذا رأي مراجع الدين الكبار الخوئي والفياض والحكيم، ولا فرق في أن تكون هذه الدولة ديكتاتورية كدولة البعث التي ساد فيها الطغيان، أو دولة إسلامية كجمهورية إيران الإسلامية، فالمرجع جواد التبريزي أيضاً يقول بمجهولية أموال الدولة، وهو يعيش في ظل الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ونشأ هذا الرأي من أن الحكومة أو الدولة ليست شخصاً ليكون لديها ملك، أي ليس لديها "مصداق خاص".
2- الرأي الأضعف وهو أن أموال الدولة معلومة المالك، وهذا الرأي يشذ عن المشهور باعطاء الدولة شخصية اعتبارية وليست معنوية، وهذا القول هو عبارة عن نتيجة نحن استنبطناها، وإلا فإن قولهم هو كالتالي : (الدولة حتى لو كانت معنوية وليست عنوان اعتباري، وليست شخصاً معيناً فان فيها قابلية "المِلك" و"التملك") وهذا اخذٌ واضح بسيرة العقلاء، وهو رأي مفجر الثورة الإسلامية والولي الفقيه للدولة الإيرانية روح الله الخميني.
3- الرأي المستحدث، وهو ما ندرجه ضمن "الفقه الخاص" لأنه خلاف المباني العامة للفقيه، ومن القائلين والعاملين به زعيم الطائفة الشيعية المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، فالرأي الأصلي للسيستاني يتطابق مع الرأي الأشهر الذي يقول بمجهولية أموال الدولة، ولكن السيستاني يطور فقهاً يجعل من الدولة مالكة، بل ويُحكم القوانين النافذة في أموالها، ويُقيد الرواتب الممنوحة للموظفين - وهي عند أغلب الفقهاء "مجهول مالك"- بعقد التوظيف الذي يصاغ على الطريقة الوضعية ولكنه يراعي المسألتين الشرعية والإنسانية، وهنا يُخرج الرواتب الوظيفية من مجهول المالك إلى معلوم المالك، وهو موقف فقهي يختلف عن التخريجات الأخرى للفقهاء كاعتبار الأموال التي تصل إلى المؤمنين هدية من المرجع نائب الإمام، وعلى هذا الأساس تكون شرعية في أيديهم كما يذهب إلى ذلك المرجع الراحل محمد سعيد الحكيم. وفي هذا الموقف الفقهي تفصيل نتحدث عنه في الجزء الثاني من هذه المقالة، وبهذا التفصيل سيتبين طرق السرقة الشرعية والقانونية (النهب الممنهج) لأموال الدولة، وكيفية وقفها أو الحد منها بالتعرف على مسار تطويع النص الديني والفتوى الفقهية للفساد وهي جريمة كبرى بحق الشعب والدولة.
في الجزء الثاني من هذه المقالة سيتبين السبب الحقيقي لصياغة "فلسفة مجهول المالك" في الفقه الشيعي، وتسللها إلى العقل الطائفي الحاكم، وأتساع العمل بها بعد العام 2003 في العراق، ودورها في عرقلة بناء الدولة الحديثة، وسنرى إمكانية استنباط أحكام في الفقه السياسي توقف هذه المهزلة باسم الدين على يد فقهاء مصلحين ومفكرين تنويريين، ومن نفس البيئة التي ينتشر فيها تطبيق فكرة "مجهولية أموال الدولة" لدفع الضرر الناتج عنها.