تلمس الحياة تحت ضغط الأزمات
د. إيمان معروف
29/11/2024، 2:42:48 م
يقول الفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه" :
"ما لا يقتلنا يجعلنا أقوى".
في منطقتنا العربية، تتشابك الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على نحوٍ يجعل الطريق إلى الحياة الجديدة صعباً بل يكاد يكون مستحيلاً في غالب الأحيان. لكن من خلال تغيير إمكانات الفرد والمجتمع يمكننا إعادة تشكيل واقعنا لبناء حياة تكون أكثر استقرارًا وأقوى من ذي قبل. بيد أن بعض الأسئلة تبقى مؤرقة: كيف يمكن للإنسان أن يبدأ حياة جديدة وسط هذه التحديات؟ هل يمكنه استغلال هذه الأزمات كفرصة للابتكار والنمو؟ وهل يمكن للمجتمعات العربية أن تبني أنظمة اقتصادية وسياسية تحرص على الاستدامة والعدالة؟ والسؤال الأهم ما الثروة الأقوى التي تمنحنا القدرة على صنع الأمل كلّ مرة؟ في ظل الأزمات السياسية التي تضرب العديد من الدول العربية، يبدو من الصعب إيجاد أمل في غدٍ أفضل. لكن أول خطوة نحو التغيير تبدأ بتقبل الواقع كما هو، ومعايشة الظروف الصعبة دون الخضوع لها تمامًا. قد لا نملك القدرة على تغيير كل ما حولنا، لكننا قادرون على تغيير طريقة استجابتنا لهذه الظروف. يبدو هذا الكلام مجرد فلسفة، لكن الواقع العربي يقدم لنا العديد من الأمثلة حول دور المرونة والتقبل ومساهمتهما في بناء مجتمعات أقوى وأكثر قدرة على الصمود. على سبيل المثال، في لبنان، الذي يعاني من أزمة اقتصادية خانقة منذ عام 2019، إثر انهيار النظام المالي في البلاد وانخفاض قيمة العملة اللبنانية إلى مستويات غير مسبوقة، مما دفع العديد من اللبنانيين إلى مغادرة البلاد بحثًا عن فرص أفضل. لكن، في خضم هذا الانهيار، شهدنا نموًا في المبادرات المجتمعية التي تحاول التكيف مع الوضع، مثل حملات جمع التبرعات ودعم المشاريع الصغيرة التي تعتمد على التعاون المحلي. أثبتت مبادرات مثل "لبناننا" أن العمل الجماعي يمكن أن يخفف من وطأة الأزمات، ويحقق نتائج ملموسة على الأرض، على الرغم من الظروف السياسية المعقدة. ووفقًا لدراسة أجرتها الأمم المتحدة في 2023، أظهرت بعض البلدان العربية المنكوبة نموًا في الأنشطة المجتمعية التي تهدف إلى تعزيز الوحدة الوطنية، وهو ما يعكس دور التعاون في تقديم حلول مبتكرة لهذه الأزمات السياسية المتجذرة. فالعراق مثلاً لم يعرف الهدوء ولا الاستقرار منذ عقود ومع ذلك نجد أن شبابه اعتاد النهوض من تحت الرماد وابتكار الأمل من لا شيء. إذن، بين التقبل والعمل الجماعي، نأمل أن تنجح الإنسانية في مواجهة أعتى التحديات السياسية إن استثمرت في بناء شبكات من الدعم والتعاون، ولو على مستوى صغير. في النهاية، قد تكون الأزمات دافعًا لتوحيد الطاقات البشرية وتوجيهها نحو هدف مشترك يبني الأمل في غدٍ أفضل ويجيب على السؤال "كيف أبدأ من جديد؟"
في ظل الأزمات الاقتصادية المتتالية التي تواجهها العديد من الدول العربية، أصبح من الضروري إعادة النظر في فرص النمو داخل هذه البيئة المتقلبة. ففي الوقت الذي تتفاقم فيه الأزمات الاقتصادية ويواجه المواطن العربي غلاء المعيشة وتضخمًا متزايدًا، لا سيما في دول مثل مصر، حيث ارتفعت معدلات التضخم إلى 35% خلال العام الجاري 2024، ولكن من ناحية أخرى، تُقدم هذه الأزمات فرصًا جديدة يمكن استثمارها لإعادة هيكلة الاقتصاد المحلي، وتحقيق النمو في مجالات جديدة غابت عن الأذهان في السابق. فعلى سبيل المثال، كان الانخفاض الحاد في قيمة الجنيه المصري أمام الدولار من أبرز الأزمات التي أثرت على الحياة اليومية للمواطنين. لكن في الوقت نفسه، فتحت هذه الأزمة أبواب الفرص أمام الشركات المحلية للاستثمار في مجالات مثل الصناعة الصغيرة والتكنولوجيا. أظهرت بعض التقارير الاقتصادية في عام 2024 أن قطاع التجارة الإلكترونية في مصر نما بنسبة 30% خلال العامين الماضيين، مما يعكس تحوُّلًا في سلوك المستهلكين الذين أصبحوا يعتمدون أكثر على الإنترنت في شراء السلع والخدمات. أيضًا، في دول مثل المغرب وتونس، أصبحت الفرص التي تتيحها التكنولوجيا الحديثة محورية في إعادة تشكيل الاقتصاد. فبالإضافة إلى تزايد الاتجاه نحو التجارة الإلكترونية، أصبحت الشركات الناشئة في مجالات البرمجة والتكنولوجيا تستقطب استثمارات ضخمة. في تونس مثلا، شهد قطاع تكنولوجيا المعلومات نمواً بنسبة 20% في السنوات الأخيرة، وهو ما يعكس توجه الشباب نحو الابتكار وتأسيس مشاريع جديدة. هذا التحول ليس محصورًا في تونس فقط، بل يشمل معظم الدول العربية التي بدأت ترى في التحول الرقمي والتجارة الإلكترونية وسيلة للتكيف مع الواقع الاقتصادي المتغير. إن تنوع الفرص الاقتصادية في هذه المجالات يتطلب من الفرد العربي أن يكون مرنًا ومستعدًا لاستكشاف هذه الفرص الجديدة. في المملكة العربية السعودية، حيث يشهد سوق العمل تطورًا كبيرًا مع رؤية 2030، هناك تحول نحو اقتصاد قائم على المعرفة، مما يتيح فرصًا أكبر للشباب العربي للاستثمار في التعليم الذاتي، ودخول مجالات مثل الذكاء الصناعي، وتحليل البيانات. وبرغم الفرص المتاحة، يظل الواقع الاقتصادي تحديًا كبيرًا، لا سيما في ظل بطىء التعافي الاقتصادي في بعض الدول مثل لبنان، حيث وصل معدل البطالة إلى 35% في عام 2023، مما يعكس تحديات أكبر للمواطنين في إيجاد فرص عمل مستدامة. لذلك، فإن تبني نهج التفكير الإبداعي والانفتاح على الفرص الرقمية والشركات الصغيرة سيكون المخرج للكثيرين الذين يجدون أنفسهم أمام مفترق طرق اقتصادي. أن التعليم أحد الركائز الأساسية لأي مجتمع يسعى للتقدم، إذ على الرغم من أن الأزمات السياسية والاقتصادية تؤثر على أنظمة التعليم، فإن التعليم أداة مذهلة يمكن أن تفتح أفقًا جديدًا للأفراد والمجتمعات على حد سواء. لقد أثرت الأزمة الاقتصادية العميقة في لبنان منذ عام 2019 بشكل كبير على القطاع التعليمي. فقد أدى انهيار الليرة الى تراجع قدرة الأسر على دفع الرسوم الدراسية، وارتفاع أسعار الكتب والمستلزمات الدراسية، مما جعل طلب العلم رحلة شاقة ومضنية تنهك كاهل الأهل والطلاب. ومع ذلك، نجد أن العديد من المدارس والجامعات في لبنان بدأت تتبنى حلولًا مبتكرة مثل التعليم عن بُعد وأعتماد برامج تعليمية رقمية لمواكبة هذه الأزمة. في إحدى الدراسات التي أجرتها منظمة اليونسكو في 2023، تم التأكيد على أن التعليم الرقمي يساهم في تخفيف الأثر الاقتصادي على التعليم، مما يجعل الطلاب قادرين على الوصول إلى المحتوى التعليمي من خلال الإنترنت، حتى في ظل الظروف الصعبة. ومع تزايد معدل البطالة بين الشباب، تزايدت المبادرات الخاصة بتعليم المهارات التقنية مثل البرمجة، وتحليل البيانات، والتصميم الجرافيكي، مما سيساعد في فتح فرص جديدة للعمل. وفقا لتقرير صادر عن البنك الدولي في 2024، فإن هناك طلبًا متزايدًا على المهارات التقنية في أسواق العمل العربية، وهذا يزيد من أهمية الاستثمار في التعليم المهني والفني. الى ذلك باتت القيم الأخلاقية الجمعية مثل التكافل الإجتماعي أكثر أهمية من أي وقت مضى. من خلال تقوية النسيج الاجتماعي، يمكن للأفراد أن يواجهوا التحديات بطريقة أكثر مرونة وفعالية. في بعض دول مثل المنطقة، تظهر حاجة ملحة إلى تعزيز الوحدة بين مختلف الفئات المجتمعية. فوفقًا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في 2023، أثبت أن "التكافل الاجتماعي" من بين الأدوات الفعالة للتعامل مع الأزمات السياسية، إذ أظهر التقرير أن 60% من اللبنانيين يعتمدون على شبكات الدعم المحلية في ظل انهيار النظام الاقتصادي. وفي سوريا، أكدت إحدى الدراسات التي أُجريت في عام 2022، أن 70% من النازحين السوريين يستندون إلى "دعم المجتمع المحلي" من أجل التكيف مع معاناتهم اليومية. ولا يقتصر الأمر على الدعم المادي، بل يشمل أيضًا إنشاء مساحات للحوار والمصالحة. ففي اليمن، على الرغم من الحرب التي دمرت البنية التحتية وأثقلت كاهل المواطنين، ظهرت مجموعة من المبادرات المجتمعية التي سعت إلى تعزيز المصالحة الوطنية وإعادة بناء الثقة بين مختلف الأطراف. المبادرات مثل "حوار بين شباب اليمن" أظهرت قدرة الشباب على إعادة التفاعل مع بعضهم البعض، وتجاوزهم الخلافات السياسية والطائفية، وهو ما يعكس أهمية بناء الجسور بين الفئات المختلفة في المجتمع. شهدت العديد من الدول العربية تطورًا في مفهوم "التعاون العربي" في مواجهة الأزمات الكبرى مثل جائحة كوفيد-19. ففي عام 2020، شهدنا تعاونًا غير مسبوق بين الدول العربية لتوفير اللقاحات والمساعدات الإنسانية، وهو ما يمثل نموذجًا آخر على قدرة المجتمعات العربية على تجاوز الانقسامات والتوجه نحو هدف مشترك.
الوحدة الاجتماعية سلوك عملي يحتاج إلى تعزيز القيم والأخلاق الأصيلة التي تميز مجتمعاتنا أولاً وتنمية وتطوير التكافل والعدالة الاجتماعية. لذا يمكن القول بأن باب الأمل بحياة جديدة متوازنة مفتوح وإن كان موارباً. في الوقت الذي تتصاعد فيه التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تظل الإرادة البشرية قادرة على إحداث التغيير. في دولة الإمارات العربية المتحدة، تسعى الحكومة إلى بناء اقتصاد قائم على المعرفة من خلال "رؤية 2030"، وشهدنا نموًا ملحوظًا في قطاعات مثل الطاقة المتجددة والتكنولوجيا. شملت هذه الرؤية المستقبلية الحكومة والأفراد الذين أصبحوا أكثر استعدادًا للاستثمار في التعليم الرقمي، والابتكار، وريادة الأعمال. تُظهر تقارير الأمم المتحدة لعام 2023 أن الإمارات أصبحت من أكثر الدول استدامة في العالم العربي. كذلك في السعودية، وعلى الرغم من التحديات الاقتصادية التي تواجهها، فإن رؤية المملكة 2030 التي أطلقها ولي العهد محمد بن سلمان، تهدف إلى تحوُّل جذري في البنية الاقتصادية، مع التركيز على تنمية القطاعات غير النفطية مثل السياحة، والتعليم، والابتكار.
في تقرير صادر عن البنك الدولي في 2024، تبين أن المملكة بدأت في رؤية نتائج ملموسة لهذه التحولات الاقتصادية والاجتماعية، مع زيادة فرص العمل في مجالات جديدة غير تقليدية. إن الإيمان بالقدرة على التغيير وبأن الأمل يمكن أن يظل موجودًا مهما كانت الظروف، هو ما يجعل المجتمعات العربية تستمر في تخطي الأزمات. وما يحتاجه الإنسان العربي هو تبني هذه الفرص بروح من التفاؤل والعمل الجماعي بعيداً عن الميل إلى الهجرة واليأس من بناء حياة مقبولة على أرض الوطن الأم. إن مواجهة الأزمات في المجتمعات العربية يتطلب بناء قدرات الفرد والمجتمع، ناهيك عن الرغبة والإرادة الشخصية والإصلاح الجماعي. تبدأ حياة جديدة حين يؤمن الإنسان العربي بقدرته على امتلاك الأدوات اللازمة لإحداث التغيير مهما كانت الظروف صعبة. فلا الأزمات السياسية، ولا الاقتصادية، ولا الاجتماعية يمكن أن توقف طموح الإنسان إذا استقر على هدف واضح لبناء مستقبل أكثر أماناً.