مستقبل الأموال العامة في ظل حكم مجهول المالك -2-
د. محمد نعناع
8/12/2024، 9:09:09 م
تطرقنا في المقالة السابقة إلى نوعين من مناشئ "حكم مجهول المالك"
الأول: هو المنشأ التراثي الروائي، وهو بحاجة إلى تحقيق من نوع خاص لامجال للخوض فيه الأن، والبحث فيه موكول إلى محله التخصصي، لكن الثابت فيه هو إمكانية انتزاع قناعة بأن المعطى التراثي مؤيد لحكم مجهول المالك بصورة عامةالمنشأ الثاني: وهو محل المناقشة لأنه يعبر عن الجدوى المتحققة في الواقع في إطار عملية الإصلاح الديني المرتبطة بالعمل السياسي الضابط لأسس بناء الدولة المدنية الحديثة التي نستهدف توضيح معالمها العامة وملامحها التفصيلية، وهو المنشأ الفقهي المأخوذ من مراجع التقليد أو (المجتهد الجامع للشرائط) وهذا المسار كما لاحظنا تكتنفه اختلافات اجتهادية عميقة، تؤكد ضرورة التراجع عن قناعات فقهية بوصفها قناعات تدميرية لا تمت إلى الواقع بصلة، وهذا الاختلاف الفقهي فرض عملية إصلاح من الداخل كما هو واضح، ومن المؤكد أن الإصلاح من الداخل – كما في فقه المستحدثات- من شأنه أن يهزم الجاثم على مسار "أنسنة الفقه" وهو مسار مطلوب بقوة لتصحيح دور الدين في الحياة الاجتماعية. ومن الطبيعي التأكد بأن المسعى الإصلاحي الذي يمارسه بعض الفقهاء ويتبعهم في ذلك عدد من المفكرين الشيعة من أجل إصلاح الضرر الذي أحدثه حكم مجهول المالك، لا يرقى إلى نسف الحكم بالكامل واستبدال الأموال على أنها مجهولة مالك إلى كونها معلومة المالك، والمواقف التي تنطلق منهم لا تعدو كونها ظرفية تسقط بموت هؤلاء الفقهاء، وكل ما فعلوه بهذا الشأن هو اعتبار الدولة (أو الجهات المسؤولة حسب القانون) تتحمل مسؤولية الحفاظ على الممتلكات، وليست الدولة هنا مالكة للأموال العامة، وهذا فهم متقدم وإيجابي نسبياً ويقلل الضرر الذي يقع على الأموال العامة وممتلكات الدولة عموماً، ولكنه يصطدم بأمرين، الأول: إن تحميل الدولة للمسؤولية ليس شاملاً بل قد تخرج عن مسؤولية الدولة وسيطرتها عند بعض الموارد، وحسب "الاحتياطات الفقهية" قد يلجأ المكلف إلى فتوى مرجع تقليد أخر يجيز له التصرف بأموال الدولة على أنها مجهولة المالك، حتى لو كان يقلد أصلاً مرجعاً يحتاط في التصرف بأموال الدولة وممتلكاتها التي هي ملك لكل الشعب، وقد يكون هذا المرجع غير عراقي، أو يكون عراقياً ولكنه يعيش خارج الحدود. الثاني: إن موت الفقيه يعني موت أكثر المواقف والأحكام التي قال بها في حياته وهي من نوع العناوين الثانوية أو المسائل المستحدثة أو القضايا السياسية المحسوبة على الشأن العام وهي خارج نطاق صلاحيات أغلب الفقهاء. ولهذا فإن "دورة الثقافة الشعبية" تعود دائماً لتفعل فعلها في الواقع، فتبيح الأموال العامة، وتسمح بوضع اليد عليها، والتصرف بممتلكات الدولة، استناداً إلى أن الأصل هو (إن الدولة مُغتَصِبة للمال الذي هو حق للمؤمنين بالترخيص من الفقيه الذي هو مخول من الإمام المنصب من الله تعالى)، وإن أي إيقاف لهذا الحق هو استثناء على القاعدة، ومن باب الفقه الخاص. وفي هذه المساحة تتشكل عملية (السرقة المنظمة – النهب الممنهج) ولا نستبعد بأن سرقة الأمانات الضريبية ترتبت في هذا الفضاء الديني، خصوصاً أن الذين اقترفوا هذه الجريمة (الظاهريين والمخفيين) ينتمون إلى بيئة دينية معينة ويقومون بممارسة شعائر معينة تربطهم بمجموعات اجتماعية يؤدون لها الحقوق الشرعية ويتصدقون على أفرادها، ويتقوى هذا الفهم في ظل أن الأموال التي سطوا عليها تعود لشركات أجنبية كافرة تعمل في العراق وتستفيد من ثرواته التي هي ملك للمؤمنين.
[ ] قدر العديد من الفقهاء بأن أخذ القروض من المصارف الحكومية لا بأس به حتى مع وجود فوائد على القروض، واستثنوا المصارف الأهلية من ذلك، لأن - على ما يبدو - إن الربا في الأموال الشخصية عندهم، والمصارف الأهلية فيها أموال شخصية، ثم شاع أن حتى المصارف الأهلية أصبحت مشتركة، وحكمها حكم المصارف الحكومية، والأموال التي فيها (مجهولة المالك) وبالنتيجة أخذ القروض منها والقبول بالفوائد على هذه القروض جائز، وهذا الكلام مهم جداً، وليس من حيث كونه يتطابق مع الاحكام الشرعية الجلية والقطعية أم لا، كحكم حرمة الربا، فهذا لا شأن لنا به، لأنه خارج ما هو مطلوب في هذه المقالة، فالأهمية هنا في أن هذه القروض وفوائدها عندما أُبيحت كمجهول مالك، هل يمكن الإفلات منها بعدم تسديدها لأنها أموال مجهولة المالك، وما هو مجهول المالك هو حق للمؤمنين؟! وجواب هذا السؤال وبضرس قاطع هو أن القروض المأخوذة من المصارف الحكومية والمشتركة تُسدد بنية (دفع الضرر) وتقييدها بالالتزام بقوانين الدولة أمر ثانوي لا قيمة له مع وجود عنوان أولي هو مجهول المالك، ونية دفع الضرر تقوم على أن صاحب القرض لا يمكنه دفع الضرر عن نفسه في حال استعصى عن دفع القرض وفوائده فقد يتعرض للسجن أو حجز بيته أو إيقاف راتبه، فلذلك (القدرة على التغليس) متاحة للجميع إذا أحرزوا عدم الضرر، سواءً في القروض أو في المعاملات المالية الأخرى مع مؤسسات الدولة.
وتنشأ أيضاً هنا إشكالية سياسية، قد يراها البعض مضحكة، ولكنها على درجة كبيرة من الخطورة، وهي أن هؤلاء المفتين بإعطاء الفوائد المالية عن القروض المسحوبة من المصارف الحكومية والمشتركة في الدول الإسلامية والدول الكافرة على حد سواء، بالإضافة إلى أنهم يضربون أسس التشريعات الإسلامية، فانهم يُربِحون الدولة الظالمة بتكثير أموالها من خلال الفوائد، مما يعني مساعدتهم في تقوية نظامها السياسي، فالاقتصاد ما هو إلا داينمو العمل السياسي. فأي منطق أهوج وأعوج يستخدمونه وهو يضر بمعادلة حيوية وهي العمل بأخلاقيات تغليب الحق على الباطل، فهل مجرد أذن الحاكم الشرعي لقبض القروض والقبول بفوائدها لتغيير الحكم من الربا إلى مجهول المالك، وتغيير نية الامتناع عن التسديد من التهرب إلى دفع الضرر كافٍ لشرعنة السرقات! اليس من المفروض أن يُنتج الفكر الديني تشريعات من نوع أخر تتلائم مع قضايا وحركة العصر!. فالجمود على مسائل استنبطت في أزمنة غابرة وشاعت وفقاً للمشهور لا تصلح أن تُنمي حركة المجتمع وتحقق العدالة فيه، بل تحوله إلى مجتمع يستولي فيه القوي على مبالغ طائلة ويتصدق بالفتات على الضعفاء. إن أول من شرع تسليم "أموال الخمس" للفقهاء هو (الفقيه ابن حمزة) في القرن السادس الهجري، وفقاً لمفهوم (من باب أولى) كما في كتابه (الوسيلة إلى نيل الفضيلة) وقبل ذلك كان هناك الكثير من الفرضيات والاجتهادات لكيفية التعامل مع هذه الأموال في عصر الغيبة الكبرى، وكذلك هو الحال بالنسبة لحكم مجهول المالك، فمن المعلوم بأن سياق تقسيم الأموال في الفكر الديني، وهو سياق تدريجي، أنتج أن هناك أموالا مجهولة المالك، وهي القسم الأكبر، وأموالا معلومة المالك، وهي الأموال الشخصية، وقد بينا ذلك في المقالة السابقة، وأيضاً هناك أموال غير محترمة، وهي أموال الكفار، والأموال المستنقذة، أي الأموال المعادة من المستولين عليها بشتى الطرق، وهناك تفاصيل كثيرة لوصف هذه الأموال وكيفية التعامل معها، لكن قاسماً مشتركاً يربط بينها وهو: أنها محكومة من حيث التملك والحيازة والانتفاع منها بأذن الحاكم الشرعي، وهذا الموقف شامل لحركة الأموال في الدولة الكافرة والدولة الإسلامية على حد سواء، إلا ما خرج بالدليل. ان ما يعرفه الناس عن مجهول المالك هو ما يقوله الفقهاء لهم أنه مجهول المالك، ومع هدر سياق أن هناك تفاصيل في هذا التعريف، لا تراعى عادة عند الكثيرين، فان المقصود من اعتبار أموال الدولة مجهولة المالك، ويستلزم الاستفادة منها فقط أذن الحاكم الشرعي، ما هو إلا تضخيم وتقوية لدور رجل الدين في أموال الشعب على حساب الدولة الوطنية، وفي ذلك إقحام للمقولات الدينية في قلب الدولة المدنية، أو كما نسميه (تغول الثيواستراتيجيا)، وفي هذا الأمر مفسدة عظيمة، حتى لو لم يقصد الفقهاء وقوع هذه المفسدة العظيمة، وبيان ذلك على النحو التالي:_
- في حالة كون أموال الدولة مجهولة المالك، فإن الأذن في هذه الأموال للحاكم الشرعي.
- في حالة كون أموال الدولة معلومة المالك، أو في الدولة قابلية المِلك، فإن المسؤولية تقع على عاتق مؤسسات الدولة القانونية، وهنا يكون أذن الدولة في مقابل أذن الحاكم الشرعي، وهذا المعنى يقر به بعض الفقهاء، حتى ولو على نحو تسليم مسؤولياتهم للدولة بتحكيم القوانين من أجل إنصاف الناس، وهذا أمر ممدوح.
- في حال كون أموال الدولة مجهولة المالك، فإن المحاسبة عليها لا تحتكم إلى قوانين وضوابط محددة، بل خاضعة لأخلاقيات فضفاضة، وفي أقصى الأحوال فإن الرادع هو الحرام والحلال - وهو أمر محترم في ذاته - ولكنه لا يوفر الردع الكافي للسرقات والسطو على أموال الدولة، ولا يترتب على ذلك اعتراف بالفساد.
- في حال كون أموال الدولة معلومة المالك، فإن الذي يحاسب ويراقب ويعاقب هو كيان عظيم وقوي هو الدولة، وكيفية المحاسبة في مؤسسات الدولة والمراقبة في مؤسسات النزاهة والمعاقبة في مؤسسات القضاء واضحة وتحتكم إلى القوانين النافذة والسوابق القضائية.
- في مؤسسات الدولة تتوفر إمكانية فضح الفاسدين ومعاقبتهم، لكن بشكل عام لا تتوفر إمكانية لفضح الفاسدين ومعاقبتهم في الجهاز المرجعي للفقيه، بل ليس هناك شفافية تستجلي من مصداق من أخل بالأذن الشرعي في مسألة مجهول المالك.
- إدارة الأموال العامة في وعي المؤسسة الدينية تجري بدون مسؤولية حقيقية أو سلطة واقعية، بل لعل نفس المرجع الديني ينفي عن نفسه بأن له سلطة أو صلاحيات في الشأن العام، ويكتفي بالأمور الحسبية.
وفي هذه البيئة تنشأ عملية صياغات إضفاء الشرعية على أي شيء بتسميته (مجهول مالك) والاستيلاء عليه، وتتقوى هذه العملية إذا اندرجت ضمن تقوية أو دعم هوية مذهبية أو مرجعية معينة. ونحن نريد أن يكون هناك حكم بحرمة التصرف بأموال الدولة مطلقاً، وهذا لن نجد له اثراً إلا إذا كانت الأموال العامة معلومة المالك والدولة مالكة على نحو ذاتي، وهذا ما لم يقرره الفقهاء لحد الأن بشكل قطعي.
بدرجة شبه مؤكدة فإن مجهولية أموال الدولة تعني (إذا أتتك الأموال بصورة شرعية فتجوز لك، حتى لو كانت غير قانونية)، ولذلك يقوم الفاسدون بسرقة الأموال العامة بالقفز على القانون. وهذا الكلام يتناقض مع بعض الفتاوى للمرجع الأعلى السيد علي السيستاني فهو يقول في رده على الاستفتاءات المتكررة حول مجهول المالك: (لا نأذن بالتصرف في أموال الحكومة في الدول الإسلامية بغير الطرق القانونية باي نحو من الأنحاء). وقوله أيضاً: (ما يكون ثمناً لما تبيعه الحكومة من المعادن المستخرجة من الأرض كالنفط والغاز والكبريت وغيرها، وما تشتريه به من المصانع والبضائع والأدوية وما تشيده به من المستشفيات والمدارس والجامعات وسائر مؤسسات الدولة، وغير ذلك مما تقتضيه مصلحة الشعب، ليس مجهول المالك، ويجب صرفه واستخدامه وفقاً للقانون، الذي يفترض أن يكون مبنياً على رعاية العدالة بين أبناء الشعب). إن أخطر ما تنتجه فتوى (مجهول المالك) هو ثلاثة أضرار مستدامة، وهي :
1- إضعاف الدولة.
2- إشاعة السرقات.
3- السماح بالتدخلات الخارجية.
وأهم الحلول لهذه المشكلة المستعصية هي :
1- إنتاج فقه جديد في باب المعاملات المالية.
2- تمكين مؤسسات الدولة بالوعي والقوانين.
3- حماية النخبة المفكرة لنظام سياسي عادل.
إن عملية تشخيص الأخطاء تحتاج إلى جرأة وعمق وتجرد، وهذا ما نبتغيه من أجل المعالجة الحقيقية للازمات، فليس لدينا مشكلة بالتنظير الذي يأخذ أحياناً شكل خطاب ملائكي لا علاقة له بالواقع، بل نحتاج إلى صياغة معالجات واقعية ناظرة إلى حجم الخطر الذي يحيط بكل مقولة دينية تُستغل لمصالح خاصة أو ضيقة.