
شهادات سورية صادمة... سقوط الأسد يكشف حجم الإستبداد وفرط القسوة

مراصد
12/2/2025، 4:17:32 م
مهما طال الزمن بحكم الأنظمة الشمولية يبقى سقوطها المدوي إيذانا بإماطة اللثام عما كانت تخفيه من جرائم تصفية وإباداة جماعية وأستخدام منتهى القسوة ضد المعارضين علنا أو خفية. حين ذاك يصحو العالم على هول الصدمة مما جرى على مدى سنوات وعقود دامية.
▪︎ صمت الضحايا
كان حيّان حديد في الثامنة عشرة من عمره حين دهم بيته عسكريون في شباط فبراير 1982 واقتادوه بلباس النوم إلى موقع إعدام في مقبرة في مدينة حماة السورية التي شهدت مجزرة في ظلّ حكم عائلة الأسد. يقول حيّان لوكالة فرانس برس "لم أروِ ذلك في حياتي من قبل، كلّ شيء ظلّ سرّا، فقط عائلتي كانت تعرف". ويضيف الرجل الستيني اليوم والأب لخمسة أبناء، "بعد الأحداث الأخيرة، بات الكلام ممكنا". فمع سقوط حُكم الرئيس المخلوع بشار الأسد الذي امتدّ خمسة وعشرين عاما خلفا لوالده الذي حكم هو الآخر سوريا بقبضة من حديد على مدى ثلاثة عقود، صار بإمكان السوريين الحديث جهرا عمّا كان محرّما في ما مضى. ومن تلك المحرّمات الكلام عن مجازر حماة، بعد 43 عاما على حصولها. في الثاني من شباط فبراير من العام 1982، أطلق حافظ الأسد حملة دامية لقمع تمرّد قام به الإخوان المسلمون في حماة، بعد محاولة لاغتياله في العام 1980. وفي ظلّ صمت إعلاميّ مُطبق، نفّذت أجهزة الأمن بقيادة رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد، قصفا على المدينة بلا هوادة، وحاربت تنظيم "الطليعة المقاتلة" المنبثق من الإخوان وأجهزت على من صادفته من مدنيين من رجال ونساء وأطفال، بحسب ما يروي شهود.
وامتدت المذبحة 27 يوما، ولم تُعرف قط حصيلتها بشكل رسمي. أما التقديرات فتراوح بين عشرة آلاف قتيل و40 ألفا، أو أكثر، فقدوا حياتهم في ذاك الشهر من العام 1982. يقول حيّان إنه لم يكن على أي علاقة بجماعة الإخوان المسلمين، لكن اسم عائلته كان كافيا لجلب الويلات عليه. ويضيف "كنت طالبا في المدرسة حينها، وكان أبي يخاف كثيرا عليّ وعلى شقيقي". فأحد أقارب العائلة هو مروان حديد، صاحب الشهرة الواسعة في تاريخ الجماعات الإسلاميّة المسلحة، والذي كان قياديا في "الطليعة المقاتلة"، قبل أن يقضي في السجن في العام 1976. في شباط فبراير 1982، وبعد 13 يوما من القتال الضاري، وصلت القوات الموالية للحُكم إلى الحيّ الذي يسكن فيه مروان حديد. واعتقلوا فيه قرابة مئتي رجل واقتادوهم إلى المدرسة الصناعيّة، بحسب ما يروي حيّان. مع حلول الليل، استُدعي نحو أربعين رجلا منهم، وأيديهم موثوقة بأسلاك هاتف، ونُقلوا في شاحنة. ويقول حيان "حين وصلنا، أخبرت جاري أنها مقبرة، فأجابني: هذا يعني أنّهم سيعدموننا". وبالفعل، أطلق صفّان من الجنود النار على المعتقلين، وشعر حيّان حديد بملامسة الرصاص لشعره، لكنه لم يُصب.
ويضيف "سقطت على الأرض، ولم أتحرّك، لا أعرف كيف. لم تكن تلك حيلة واعية منّي لأنجو من الموت". بعد ذلك، أطلق الجنود رصاصة على كلّ شخص للتثبّت من وفاته، لكن الجندي الذي اقترب منه لتلك الغاية لم يطلق عليه الرصاصة. ويقول "كنت أرتدي حينها ملابس نوم حمراء اللون، وربما قال في نفسه إنني ميت". بعد أكثر من أربعة عقود، لا يزال حيّان حديد مذهولا من نجاته. ويروي "لم أستوعب أنني نجوت إلا بعد ساعة. كنت أسمع صوت نباح كلاب وإطلاق نار، ومطر..". فقام ومشى إلى بلدة سريحين المجاورة في ضواحي المدينة، ثم عاد إلى حماة مع ساعات الفجر، وتسلّل إلى بيت عمّه الذي كان يؤوي سبع عائلات. ويقول الموظف السابق في مصنع للصلب "كان وجهي أصفر مثل العائد من بين الموتى".
▪︎ شاحنات القتلى
في العام 1982، كانت كاميليا بطرس مسؤولة مكتب القبول في المستشفى الوطني في حماة، قبل أن تصبح ممثلة وكاتبة مسرحية. وعملت مع موظفيها على مدى عشرين يوما على تسجيل أسماء الضحايا المنقولين للمستشفى. وتقول بطرس، "كانت الجثث تصل بالشاحنات، وتلقيها القلّابات على باب المشرحة، بدون توقّف، بشكل يتجاوز قدرتنا على العمل". بين الضحايا الذين نقلوا الى المستشفى، من لم يُعثر معهم على بطاقة هوية، وآخرون مجهولون لا يُعرف عنهم سوى اسم الحيّ الذي نُقلوا منه. ودُفن كثيرون في مقابر جماعية، كما تقول. وتضيف "كنّا نتلقى على مدار ساعة اتصالات من القيادة لمعرفة أعداد القتلى الدقيقة، من الجيش ومن الإخوان المسلمين، ومن الأبرياء". وبحسب الأرقام التي عملت عليها، "بلغ عدد المدنيين القتلى 32 ألفا"، إضافة إلى الآلاف من الجنود والإخوان المسلمين. وأبلغت السلطات بهذه الأرقام، قبل أن تُسحَب منها البيانات.
وتروي كاميليا أنّها شاهدت من مكتبها "إعدامات على الجدران". ولم توفّر هذه الإعدامات العائلات المسيحية من بينهم والد صهرها. وتقول "لم يُستثنَ أحد من القتل في حماة".
▪︎ إعدام أمام العائلة
ويروي بسام السرّاج البالغ من العمر اليوم 79 عاما كيف أُعدم شقيقه مع مجموعة من أبناء الحي على مرأى من زوجته وأطفاله حين سيطرت "سرايا الدفاع"، الميليشيات التابعة لرفعت الأسد، على الحيّ القاطن فيه. ويؤكد بسام أن شقيقه هذا لم يكن من الإخوان المسلمين. بعد ستة أشهر، اعتُقل شقيقه الثاني ميسر أيضا بتهمة الانتماء للإخوان. ويقول "بعد ساعتين أو ثلاث، استدعوني لأستلم جثّته". ومنعت قوات الأمن العائلة من تنظيم مراسم الدفن.
ويضيف "أخذوا شخصا واحدا فقط من العائلة وذهبوا لدفنه". كان محمد أمين قطّان في السادسة عشرة من عمره فقط عندما حمل السلاح ضمن "الطليعة المقاتلة"، لمحاربة حكم حافظ الأسد.
في شباط فبراير من العام 1982، أوقف وكان ما زال قاصرا، ما أبعد عنه عقوبة الإعدام. لكنه أمضى 12 عاما في سجن تدمر السيّء السمعة في وسط سوريا. يُقرّ قطّان أن تنظيم "الطليعة المقاتلة" كان في مواجهة مفتوحة مع السلطة على مدى سنوات.
ويقول "لم يكن نهج النظام يتوافق مع المبادئ والأهداف والتصوّرات والعقائد السائدة في البلد"، مشيرا على سبيل المثال إلى اختلاط الذكور والإناث في معسكرات "طلائع البعث". ويضيف "حاول النظام استنساخ النموذج السوفياتي، ما أثار حفيظة رجال الدين المسلمين". حين بدأت الأحداث في حماة، أُعلن النفير العام في المساجد، ليصل التعميم إلى "كلّ عناصر التنظيم"، وفق قوله. ويروي أن السلطات حينها اكتشفت وجود مركز رئيسي للإخوان وخطّة منسّقة للعمل العسكري بين شخصيات من الطليعة بين حلب وحماة. كان حيّ الباروديّة مركز القتال الشرس الذي استمرّ خمسة أيام، "ثم بدأت ذخيرتنا تنفد، وبدأ قادتنا يسقطون في المواقع الأماميّة". إزاء ذلك، بدأت القوات الحكومية السورية تتقدّم في اليوم الثالث أو الرابع، و"تصّرفت كمن تلقى أمرا بقتل كلّ من يصادفها". وفقا لما نقلته الفرنسية. ويضيف "كانت الشوارع مكتظة بجثث المدنيين، ومن بينهم أطفال ونساء وكبار". فقدت عائلة قطان 12 فردا ذكرا في شباط فبراير 1982، من بينهم شقيقا قطّان، أحدهما قضى في المعركة، والثاني لم تكن له أي صلة بالإخوان المسلمين، كما يقول. في العام 1993، أطلق سراح قطّان، وأصبح صيدلانيا ودرس التاريخ.
▪︎ البحث عن المفقودين
في العام 2011، حين حوّل القمع الشديد الاحتجاجات السلميّة ضدّ بشّار الأسد إلى نزاع مدمّر، انضمّ محمد قطّان إلى مجموعة معارضة مسلّحة، قبل أن يغادر سوريا إلى تركيا ثم يعود إليها مع تداعي حكم الأسد. ويلخّص قطّان ما جرى في حماة عام 1982 "كانت جريمة مخطّطة لتأديب كامل الشعب السوري.. ضرب النظام حماة بقوّة، وأدّب بها سائر المدن".
يخرق بكاء فيروز علي شاليش السكون في مقبرة قرب حمص في وسط سوريا، حيث جلست تمسك بحفنة من التراب الأحمر في المكان الذي تعتقد أن ابنها قد دفن. لم تر شاليش محمد الذي كان في السابعة والعشرين من العمر، منذ دهم عناصر من الأمن منزلهم شرق المدينة مطلع تشرين الثاني نوفمبر الماضي، قبل زهاء شهر من إسقاط الرئيس بشار الأسد. تقول السيدة البالغة 59 عاما، لوكالة فرانس برس، إن العناصر "أطلقوا النار عليه وأصابوه في رجله وسقط أرضا، قبل أن يتقدم نحوه اثنان ويطلقوا عليه" النار أكثر من مرة، ويحملوه بعيدا.
وتوضح شاليش في مقبرة تل النصر حيث يمتزج الهواء البارد برائحة التعفن، أن محمد "متزوج ولديه أربعة أولاد صغار". تضيف "لديه ابن في الثانية، يأتي (إلي) طوال اليوم ويسألني أين بابا؟"، وتتابع بتأثر بالغ "أجيبه كل يوم إنه سيأتي غدا ويحضر لك بسكويتا". ويبقى المصير المجهول لعشرات الآلاف من المعتقلين والمفقودين من الموروثات المروعة للنزاع السوري الذي اندلع عام 2011، وبدأ باحتجاجات سلمية مناهضة للأسد قمعتها السلطات بعنف. وحفلت الأعوام الماضية بممارسات مثل الاعتقالات التعسفية والعنف والتعذيب في السجون، ضمن ممارسات إستهدفت القضاء على أي شكل من أشكال المعارضة، بحسب منظمات حقوقية. وتشير شاليش الى أن قوات الأمن دهمت المنزل بحثا عن محمد "بعدما اتهمه أشخاص بأنه يتواصل مع ثوار الشمال". وفي حين تشير الى أن ابنها الثاني الذي تمّ توقيفه، أطلق سراحه في وقت لاحق، تؤكد أنها أبلِغت بشكل غير رسمي بأن محمد لقي حتفه أثناء الاعتقال. في المقبرة المترامية الأطراف، يقوم حجر بناء مقام شاهد القبر حيث تجلس شاليش التي علمت في زيارة سابقة، أن شخصا مجهول الهوية دفن في المكان، وأن تاريخ وفاته مشابه لوفاة محمد.
وتؤكد أنها رغم محاولاتها المتكررة، لم تحصل بعد من السلطات المعنية على فتوى لفتح القبر والتحقق من الجثمان. وتقول بتصميم "اذا قالوا لي أن أذهب الى آخر الأرض سأذهب. أريد أن أتأكد اذا ما كان هذا ابني أم لا"، مضيفة "أريد أن أتأكد من ذلك ليرتاح قلبي".
▪︎ السقوط المدوي
وأطاحت فصائل معارضة تقودها هيئة تحرير الشام ذات التوجه الإسلامي، حكم الأسد في الثامن من كانون الأول ديسمبر، إثر هجوم بدأته من معقلها في شمال غرب سوريا، ودخلت بنتيجته الى دمشق خلال 11 يوما. في مكتبه عند مدخل المقبرة، يبحث القائم بأعمال الدفن عدنان ديب المكنى "أبو شام" في سجلات ورقية متآكلة كتبت عليها بخط اليد، أسماء الذين دفنوا في تل النصر. ويوضح أنه عقب اندلاع النزاع، بدأت السلطات تحضر الجثث "عن طريق المشفى العسكري... بعضهم يأتي برموز، وبعضهم يأتي بأسماء. نقوم بواجبنا الديني عليهم وننفذ أعمال الدفن". ويشير الى أن الأعداد كانت متفاوتة "يوم يأتي 10، يوم يأتي خمسة... (أعداد) لا يعلم بها الا الله". يضيف "كانوا يحضرونهم إلينا بسيارات إسعاف أو بيك آبات (شاحنات صغيرة) أو سيارات عسكرية. جثث بعضها موضوع بحافظات، بعضها مكفّن، بعضها بملابس"، مشيرا الى أن بعض الجثث كانت تحمل "آثار تعذيب مثل تشويه، جلد، كدمات". ويقول ديب الذي لفّ رأسه بكوفية وجلس في مكتب تزيّنه العديد من مصبّات القهوة النحاسية التقليدية بأحجام مختلفة "كان المنظر شنيعا، لكن كنا مجبرين على العمل"، قبل أن يضيف بصوت خفيض "الله أعاننا على التحمّل".
▪︎ أرقام صادمة
يقدّر ديب بأن آلاف المعتقلين قد يكونوا دفنوا في المقبرة، مشيرا الى المعلومات الموجودة على نظام المعلوماتية في المستشفى العسكري قد يتيح كشف مصير الأشخاص وهوياتهم. ويشدد على أن من حق الناس "أن يعرفوا أين ذهب أولادهم، أين دُفنوا؟".
وأكدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن معرفة مصير المفقودين في سوريا بعد سقوط الأسد تمثّل "تحديا هائلا" يرجح أن يحتاج اتمامه الى سنوات.
وبحسب المرصد السوري لحقوق الانسان، قضى أكثر من 100 ألف شخص أثناء اعتقالهم بسبب التعذيب أو ظروف التوقيف منذ اندلاع النزاع عام 2011.
بعد أكثر من شهر على سقوط الرئيس السوري وانتهاء حكم آل الأسد الذي امتد لزهاء خمسة عقود من حافظ الأب الى بشار الابن، لا يزال الآلاف في سوريا يبحثون عن أجوبة عن مصيره أحبائهم.
من هؤلاء رفيق المهباني (46 عاما) من حمص، الذي يبحث منذ أكثر من عشرة أعوام، عن شقيقه رئيف وصهره حسان حمادي اللذين فقدا في طريق العودة إلى المنزل في حزيران يونيو 2013. ويوضح "قيل لنا إنهما في فرع الأمن العسكري في حمص. سألنا، قيل لنا إنهما أحيلا الى دمشق، ومن بعدها لم نعد نعرف ماذا حصل". ويؤكد المهباني الذي يعمل في تصليح السيارات، أن العائلة دفعت "عدة مبالغ" للحصول على معلومات بشأنهما لكن دون طائل. يضيف "وكّلنا محاميا ولم نعرف شيئا من بعدها".
وبعد فتح أبواب السجون وخروج الآلاف منها عقب سقوط الأسد، كرّر المهباني المحاولة. ويوضح "رجعنا نشرنا (الصور) ونبحث في المقابر والمستشفيات"، ومنها في تل النصر حيث لم يحصل على أي نتيجة بعد. رغم ذلك، لم يفقد المهباني الأمل. ويقول "إن شاء الله العدالة ستأخذ حقنا وحق الجميع في سوريا".