
محاذير حرب شاملة!!

مازن صاحب الشمري
22/3/2025، 11:40:55 ص
قدمت الممثلية العليا للاتحاد الأوروبي في 19 اذار الجاري "ورقة بيضاء" مشتركة بعنوان" الاستعداد الأوربي للدفاع عام "2030، اشارت في مقدمتها الى ان أوروبا تواجه تهديداً حاداً ومتزايداً، الطريقة الوحيدة لضمان السلام هي أن نكون مستعدين لردع أولئك الذين قد يلحقون بنا الأذى.
لدينا العديد من الأسس القوية، مثل قدرتنا على تعبئة الموارد الهائلة وإطلاق الطاقات التكنولوجية والصناعية الكامنة، لكننا نبدأ أيضًا من وضعٍ أُضعِف فيه استعدادنا الدفاعي بسبب عقود من التقاعس عن الاستثمار الكافي. وفيما شددت الورقة على ان الدول الأوروبية قد استفادت "بشكل كبير من كل من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. في السنوات الأخيرة، عملنا بشكل أوثق للاستجابة للتهديدات التي تواجهها"، واستدركت بالقول "لكن هذا لن يكون كافيًا في السنوات المقبلة. يجب على أوروبا أن تفعل المزيد إذا أرادت استعادة الردع وتوفير الأمن الذي يعتمد عليه ازدهارنا. وهذا يتطلب من جميع الدول الأعضاء أن تتصرف بتضامن وتستثمر في دفاعنا الجماعي".
موضوعيا ،لا يمكن ان ينطلق هذا التصرف من فراغ، او مجرد خلافات في السياسات العامة على ضفتي الأطلسي ما بين الولايات المتحدة التي توفر المظلة النووية لحماية حلف الناتو، وما تولد من "تضارب مصالح" ما بين القيادات الأوروبية وإدارة الرئيس ترامب في دورته الرئاسية الثانية في ملف الحرب الاوكرانية، بل لابد من البحث عن الأسباب الكامنة في مضمون هذا الانتقال الرافع للاقتصاد الأوروبي أولا ونشاطه العسكري ثانيا والصناعي ثالثا لمواجهة ما تصفه الورقة البيضاء بـ "التهديدات الحادة المتزايدة". وتؤكد "تتأثر قارتنا حاليًا بالحروب والعدوان والأفعال العدائية الأخرى" مقابل ما يتمتع الاتحاد الأوروبي بثروة هائلة وقوة إنتاجية عظيمة، بالإضافة إلى إيمان عميق بأهمية القيم الديمقراطية التي تتشاركها جميع الدول الأعضاء، لكنه يتعرض للضغط من قبل جهات خارجية تعبئ مواردها وتستخدم التكنولوجيا بشكل أكثر فعالية لتحقيق أهدافها، وان هذه الجهات التي تهدد بشكل مباشر أسلوب حياة الأوروبيين وقدرتهم على اختيار مستقبلهم عبر العمليات الديمقراطية، تجد قيادة الاتحاد الأوربي في هذه الورقة انهم قد يعتقدون ان الاوربيين، "غير قادرين سياسيًا على تقديم رد فعل استراتيجي ذي معنى وقادر على الصمود". !!
▪︎ حافات الردع
كانت الحرب وما زالت واحدة من الأدوات الرئيسة لممارسة العلاقات الدولية، وكانت دائمًا محورًا رئيسيًا لدراسة العلاقات الدولية. الحرب، مثل الدبلوماسية والدعاية وما إلى ذلك، هي أداة للسياسة الوطنية. وقد استخدمتها الدول لتحقيق أهدافها وطموحاتها وتحقيق مصالحها الوطنية. مسائل الحرب والسلام أساسية لفهم العلاقات الدولية، فهي الأسئلة التي تنطوي على مشكلة البقاء.
يبدأ أي استذكار للردع النووي ما بعد الحرب العالمية الثانية في اتفاق يالطا بين المنتصرين وتشكيل الأمم المتحدة، لكن متغيرات الواقع الدولي قد شهد تحولات استراتيجية كبرى منذ عام 1945، هذه المتغيرات عميقة بشكل خاص في أوروبا بسبب دورها المركزي في التحديات الجيوسياسية الكبرى خلال القرن الماضي. لقد تعرض التوازن السياسي الذي نشأ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ثم انتهاء الحرب الباردة لاضطراب شديد. لعل أكبر مظاهر ذلك في تطبيقات مفهومين متضادين هما، "الحرب المفتوحة" و" الحرب الشاملة"، الأولى تحسم نهاية الصراع من خلال تدمير الخصم وإلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر به، في حين تهدف الحرب الشاملة لتحقيق هدف محدد مثل استعادة الأراضي المحتلة، أما عن حجم القوات بالحرب الشاملة، فهي تحشد كامل قواتها بهدف تدمير الخصم اقتصاديا وعسكريا، والمفتوحة تحدد حجم القوات والوسائل المشاركة بالقتال وفقا لأهدافها. وبعد دراسة العديد من الحروب والصراعات المسلحة التي نشبت منذ تسعينيات القرن الماضي حتى الحرب الاوكرانية، اندفع بعض المحللين إلى الإيحاء بأن هذه الحروب والصراعات باتت شكل جديد من أشكال "عالم ما بعد الحداثة"، وأن عصر حرب القوى العظمى الصناعية قد تم تجاوزه. اليوم يستخدم مصطلح "الحرب" بعدة طرق مختلفة، نتحدث عن الحرب الباردة، الحرب الساخنة، الحرب المحدودة، الحرب الشاملة، الحرب التقليدية، والحرب غير التقليدية، الحرب الأهلية، حرب العصابات، الحرب الوقائية إلخ. ومع ذلك، استمرت الحرب في الوجود، واتخذت أشكالًا مختلفة. وفي الفترة الحديثة، اتخذت الحرب بين الدول المتقدمة شكلاً معينا، يتميز بعلاقة تكافلية بين دول منظمة تنظيماً جيدًا، ومارست تصنيع الحرب في الطريقة التي خاضتها. ومع ذلك، هناك بعض الدلائل على أن عصر الحرب الصناعية "الحديثة" قد لا يكون انتهى مع بداية متجددة للردع النووي، فمنذ نهاية الحرب الباردة كان هناك نقاش واسع بين علماء الحرب حول تحولات الحروب، حيث جادل العديد من المختصين بأننا بحاجة إلى التعامل مع العديد من انماط الحروب التي نراها اليوم بشكل مختلف ورؤيتها من خلال منظور جديد حيث يتم تضمين العولمة من أجل فهمها وتعميق معرفتنا بها، وصولا الى ثوابت ومتغيرات قوة الردع المتبادل في نظام دولي ما زال تحت الانياب النووية لكل من واشنطن وموسكو !!
▪︎ نظام دولي جديد
تجد الورقة الاوربية البيضاء أهمية في ديمومة "الحفاظ على النظام الدولي القائم على القواعد ذي أهمية قصوى، سواء لمصلحتنا أو كتعبير عن قيمنا"، لكن الانتقال من المساهمة في هذا النظام الى المساهمة في إعادة تشكيلة من جديد ، يمثل نقطة الارتكاز في الاطروحة الأوروبية الجديدة بقول الورقة "لكن نظامًا دوليًا جديدًا سيتشكل في النصف الثاني من هذا العقد وما بعده، وإذا لم نشارك في تشكيل هذا النظام – في منطقتنا وخارجها – سنكون مجرد متلقين سلبيين لنتائج هذه الفترة من المنافسة بين الدول، مع كل العواقب السلبية التي قد تترتب على ذلك، بما في ذلك احتمال نشوب حرب واسعة النطاق، التاريخ لن يسامحنا على التقاعس". في هذا السياق، تواجه أوروبا خيارًا جوهريًا بشأن مستقبلها، هل تريد أن تمضي في السنوات المقبلة بشكل عشوائي، محاولة التكيف مع التحديات الجديدة بخطوات تدريجية وحذرة؟ أم تريد أن تحدد مستقبلها بنفسها، بعيدًا عن الإكراه والعدوان، وتضمن لشعوبها العيش في أمن وسلام وديمقراطية وازدهار؟ إذا استجبنا لهذه اللحظة بعزيمة وعمل جماعي واستراتيجية واضحة، سنعزز مكانتنا في العالم ونجدد تحالفاتنا الدولية على أسس أكثر استدامة. سنتمكن من تجديد المشروع الأوروبي ونحسن أمن وازدهار ورفاهية مواطنينا. أما إذا واصلنا على نفس النهج، فسننتهي ضعفاء ومنقسمين وعرضة للخطر. تجيب هذه الورقة على ذلك بالقول "يجب على أوروبا أن تفعل المزيد إذا أرادت استعادة الردع وتوفير الأمن الذي يعتمد عليه ازدهارنا، وهذا يتطلب من جميع الدول الأعضاء أن تتصرف بتضامن وتستثمر في دفاعنا الجماعي".
▪︎ تحديات متنامية
وفق هذه الرؤية "البيضاء" تواجه أوروبا تهديدات متزايدة وتحديات أمنية في منطقتها وخارجها، فالتنافس الاستراتيجي يتصاعد في جوارها الأوسع، من القطب الشمالي إلى البلطيق، وصولًا إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كما أن التحديات العابرة للحدود، مثل التغير التكنولوجي السريع، والهجرة، والتغير المناخي، قد تضع ضغطًا هائلًا على أنظمتنا السياسية والاقتصادية، علاوة على ذلك، تسعى الدول السلطوية مثل الصين بشكل متزايد إلى فرض سلطتها والسيطرة على اقتصادنا ومجتمعنا. في الوقت نفسه، بدأ الحلفاء التقليديون والشركاء، مثل الولايات المتحدة، في تحويل تركيزهم بعيدًا عن أوروبا إلى مناطق أخرى من العالم، وهو أمر تم التحذير منه مرارًا، لكنه يحدث الآن بوتيرة أسرع مما توقعه الكثيرون. وتطلق صفارة الانذار بالقول "يجب على أوروبا تطوير القدرات اللازمة وتعزيز الجاهزية العسكرية لردع أي عدوان مسلح وتأمين مستقبلها. ويتطلب ذلك زيادة ضخمة في الإنفاق الدفاعي الأوروبي، على أن يكون منسقًا وفعالًا بين الدول الأعضاء، بحيث يعكس قوتنا الجماعية ويتجاوز نقاط الضعف الناتجة عن العمل غير المنسق". وهذا يتطلب "قاعدة صناعية دفاعية أقوى وأكثر صلابة، ونظام بيئي للابتكار التكنولوجي يمكن صناعاتنا الدفاعية من مواكبة تطور طبيعة الحروب. كما يجب علينا استخلاص الدروس من التحديات الحالية والاستعداد لاحتمالات نشوب صراع واسع النطاق في المستقبل القريب". ومن أجل تحقيق ذلك، الورقة البيضاء هذه تقدم إطارًا لخطة "إعادة تسليح أوروبا"، حيث تطرح قضية زيادة الاستثمار الدفاعي الأوروبي على نحو غير مسبوق. وتحدد الخطوات الضرورية لإعادة بناء القدرات الدفاعية الأوروبية، ودعم أوكرانيا، ومعالجة أوجه القصور الحرجة في القدرات، وإنشاء قاعدة صناعية دفاعية تنافسية وقوية. وتقترح على المدى القصير، خيارات ملموسة للتعاون بين الدول الأعضاء من أجل تجديد مخزوناتها من الذخائر والأسلحة والمعدات العسكرية بشكل عاجل. يُعد هذا أمرًا ضروريًا للحفاظ على دعمنا العسكري وتعزيزه لأوكرانيا، التي تشكل حاليًا الخط الأمامي للدفاع الأوروبي، حيث "تواجه حربًا عدوانية تشكل أكبر تهديد مشترك لأمننا". وعلى المدى المتوسط والطويل، تحدد الورقة البيضاء المجالات الحيوية التي تعاني من نقص في القدرات، كما تم تحديدها بالفعل من قبل الدول الأعضاء في مبادرات الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وتقترح أن تقوم الدول الأعضاء بتوحيد جهودها لمعالجة هذه الفجوات عبر مشاريع دفاعية ذات اهتمام أوروبي مشترك، والتي سيتم تحديدها من قبل الدول الأعضاء وستستفيد من الحوافز التي يقدمها الاتحاد الأوروبي. سيدعم الاتحاد الأوروبي تطوير القدرات الدفاعية المشتركة، مما سيساعد الدول الأعضاء في الاتحاد والناتو على تحقيق أهدافهم الدفاعية بسرعة أكبر وبتكلفة أقل، مع تحسين مستوى التنسيق والقدرة على العمل المشترك. وأخيرًا، تقدم توجهات لتعزيز القاعدة التكنولوجية والصناعية الدفاعية الأوروبية، وتحفيز البحث، وإنشاء سوق أوروبية موحدة للمعدات الدفاعية.
▪︎ خطة تسليح
وفق هذه المراحل تطرح الورقة خطة شاملة لإعادة تسليح أوروبا وبناء دفاعها لمواجهة هذه التهديدات، مع تحديد إجراءات فورية ملحوظة، بما في ذلك دعوة الدول الأعضاء تفعيل بند الاعتماد المالي الوطني بحلول نهاية نيسان المقبل، ودعوة مجلس الاتحاد الأوروبي لاعتماد مسودة اللائحة المقترحة حول "الأمن والعمل من أجل أوروبا" (SAFE) كمسألة عاجلة، ثم دعوة الجهات التشريعية المشتركة لاعتماد "برنامج الصناعة الدفاعية الأوروبية" (EDIP) قبل الصيف، بما في ذلك أداة دعم أوكرانيا ،فضلا عن دعوة الجهات التشريعية المشتركة للنظر بأولوية في التغييرات المقترحة على "صندوق التنمية الإقليمية الأوروبي" بحلول نهاية اذار 2025، وبعد المراجعة المتوسطة لسياسات التماسك، ستتمكن السلطات الوطنية والإقليمية والمحلية من تخصيص الأموال طواعية ضمن برامجها الحالية نحو الأولويات الناشئة، بما في ذلك تعزيز القدرات الدفاعية والأمنية. وصولا الى تقديم الاتحاد الأوروبي خارطة طريق تكنولوجية للتسليح الأوروبي للاستثمار في القدرات التكنولوجية المتقدمة ذات الاستخدام المزدوج في عام 2025، واعتماد المفوضية والممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي، بحلول نهاية 2025، رسالة مشتركة حول التنقل العسكري، مصحوبة بالمقترحات التشريعية اللازمة.
وتنتهي الورقة للتأكيد على نقطتين، الأولى يظل "الاتحاد الأوروبي مشروعًا للسلام" ولكن يجب أن يكون قادرًا على حماية مواطنيه والدفاع عن مصالحه والقيم التي يمثلها". والثانية، يجب على أوروبا أن تتخذ خيارات جريئة وأن تبني "اتحادًا دفاعيًا" يضمن السلام في قارتنا من خلال الوحدة والقوة. إنها مدينّة بذلك لحلفائها في حلف الناتو، ولأوكرانيا، وقبل كل شيء، لنفسها ولمواطنيها الأوروبيين وللقيم التي تدافع عنها. على الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء أن ينهضوا لهذا التحدي التاريخي. السؤال: هل قدمت الورقة الاوربية البيضاء تلك الأجوبة عن نظام دولي جديد ام فقط حصرت الاهتمام في محاذير "الحرب الشاملة" وفق قناعات تولدت من جملة المخاطر والتهديدات التي ذكرت فيها؟؟ من يدري، لكن المراحل المقبلة على ضفتي الأطلسي تحمل الكثير من رياح التغيير في النظام الدولي الجديد.








