
فلسفة دولة... عالم محاور متضاربة ام متعدد الأقطاب؟

مازن صاحب الشمري
13/4/2025، 11:49:59 ص
يمثل مفهوم عدم الانحياز الإيجابي انموذجا واقعيا في التعاطي مع المتغيرات الدولية خلال حقبة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي المنحل والولايات المتحدة الامريكية، تعود فكرته إلى مؤتمر "باندونغ" الذي انعقد في إندونيسيا عام 1955، لتؤسس الحركةَ عام 1961 في العاصمة اليوغسلافية بلغراد من 29 دولة،
وكان ذلك في أوج الحرب الباردة، وآنذاك دعا الرئيس اليوغسلافي المارشال جوزيف تيتو الدول النامية إلى اتباع ما عرف وقتها بالطريق الثالث بعيدا عن معسكري الحرب الباردة. وانضم زعماء آخرون أبرزهم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ورئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو إلى رؤية تيتو، ثم انعقدت القمة الأولى للحركة في أيلول 1961 في بلغراد بحضور ممثلي 25 دولة أسيوية وأفريقية، ثم توالى عقد قممها، وتشير بعض المصادر إلى أن نهرو هو من أطلق اسم عدم الانحياز، فهل هناك فرضيات موضوعية لعودة الروح لهذا المضمون في تكتل دولي جديد ما بعد خمود الحرب التجارية الراهنة وظهور المنتصرين الجدد ام لا؟؟
▪︎ عالم المنتصرين
واقع متغيرات عالم الغد تتمثل في ذات معطيات "المنتصرون" في الحرب العالمية الثانية، وإذ استبشر محللون بمختلف سيناريوهات الحرب العالمية الثالثة، الا ان الاصطفاف النوعي اليوم يتوقف عند مثابة المال والقوة النووية، وفق هذا المنظور نال الرئيس دونالد ترامب تصفيقًا داخل الكونغرس أثناء إلقائه خطاب الاتحاد، الذي يعبر عن السياسات الأمريكية، أكثر مما ناله من تصفيق حماسي خلال حملته الانتخابية. وقراءة لغة الجسد التي استخدمها، خاصة وقفة "الطاووس" التي تكررت مع كل موجة تصفيق، تُظهر أن سياسات ترامب لا تنطلق من فراغ، بل من وعي النخب الأمريكية بأن عدم إعادة النظر الشاملة في السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة يجعل حلم الرفاهية الأمريكية مجرد كلام فارغ. فيما سعى وزير خارجية إيران عباس عراقجي في مقالته التي نشرها على صفحات الراي في الواشنطن بوست ترويج ذات المفهوم على طاولة المفاوضات النووية بان إيران امة رادعة للأطماع موافقة على استثمار ترليون دولار لصالح الاقتصاد الأمريكي، بتماهي واضح مع ميول الرئيس ترامب ومحاكاة لوعي القيادات الإدارية في فريقه الحكومي، وأيضا لا يأت هذا المقال من فراغ، بل من فلسفة الدولة الإيرانية بان تاجر السجاد الإيراني العتيق باستطاعته بيعه بأغلى الاثمان في سوق المنافسة الدولية. وفي ذات الاتجاه، ظهر الكتاب الأبيض للاتحاد الأوربي حول إعادة تسلح القارة العجوز، نقطة الارتكاز في الاطروحة الأوروبية الجديدة بقول الورقة "لكن نظامًا دوليًا جديدًا سيتشكل في النصف الثاني من هذا العقد وما بعده، وإذا لم نشارك في تشكيل هذا النظام – في منطقتنا وخارجها – سنكون مجرد متلقين سلبيين لنتائج هذه الفترة من المنافسة بين الدول، مع كل العواقب السلبية التي قد تترتب على ذلك، بما في ذلك احتمال نشوب حرب واسعة النطاق، التاريخ لن يسامحنا على التقاعس".
▪︎ حرب تجارية ثالثة
يقابل كل ذلك، المتغير الأمريكي في شن الحرب التجارية بدلا من الحرب النووية الثالثة، بما يؤكد ان عالم الغد القريب على حافة التنازع في المصالح المالية بدلا من الحرب النووية، واليات توظيف القدرات النووية في رسم خارطة مصالح عالم جديد متعدد الأقطاب، يمكن ان ينتهي الى إعادة توزيع رقعة الشطرنج دوليا في مواقع أمريكية لاسيما في الشرق الأوسط الجديد، مقابل شراكات تجارية مع العملاق الصيني في مشروعه "الحزام والطريق" وبروز النموذج الهندي في مشروع قناة البحر الأحمر نحو أوروبا. مثل هذا التكوين الجديد وإعادة تدوير الأرباح والخسائر ما بعد فرض رسوم ترامب الجمركية ، يمكن استشراف نظام تجاري دولي جديد ، يجبر الأمم المتحدة في تطبيقات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على رسم معالم مرحلة ما بعد العولمة، وطاولة المفاوضات ستمد بساطها الأحمر للمنتصرين في هذه الحرب التجارية، ومن يقفون على هامشهم، ولا اعتقد سيكون هناك منهزمون في المعيار الكمي لان النتيجة ستكون معادلة الجميع رابحة اذا ركبوا موجة ترامب في تدوير الأرباح من خلال الاستثمارات في الاقتصاد الأمريكي، لعل اول من فهم هذه اللعبة هو الأمير محمد بن سلمان في مشروعه "نيونيم" لعام 2030 واستثمار اكثر من نصف تريلون دولار في الاقتصاد الأمريكي خلال فترة ترامب الرئاسية الأولى، واستعداده لزيادة هذا الاستثمار الى ترليون دولار في فترته الرئاسية الثانية، فضلا عن استعداد الامارات العربية المتحدة لاستثمار 1.4 ترليون دولار خلال العشرة أعوام المقبلة، واستعداد اليابان لاستثمار تريلون دولار ردا على رسوم ترامب الجمركية، ومن يدري متى ستحمل رياح الأيام المقبلة من رياح الأموال للاستثمار في الاقتصاد الأمريكي، وصولا الى مد تلك السجادة الحمراء للمنتصرين، والسؤال هل سيكون ذلك في فترة رئاسة ترامب ام لا ؟؟ العكس المتوقع في التنازع القاسي تجاريا بين الصين والولايات المتحدة، مقابل مواقف اما صامتة مثل الاتحاد الروسي الذي لن يمتلك أدوات تفرض متغيرات كبرى على القرار الأميركي لاسيما في إدارة ترامب التي منحت موسكو فرضيات تسوية مصالحها في الحرب الأوكرانية، ربما عليها ان تلتزم الصمت في الحرب التجارية بين واشنطن وبكين او في الحد المقبول قيامها بأدوار "الوسيط" بينهما كما فعلت بين واشنطن وطهران في ملفها النووي ، وهذا سيعجل رغبة الصين فتح أبواب التجارة امام مشروعها "الطريق والحزام" لان أي انكفاء تجاري، يعني فشل محتوم وهذا مرفوض كليا في العقلية التجارية للدول، لذلك ستجد بكين اللحظة المؤآتية للجلوس على طاولة البساط الأحمر للمنتصرين بدلا من السقوط في هاوية المطرودين او المهمشين من التجارة العالمية المقبلة.
▪︎ الانحياز الايجابي
في ضوء ما تقدم، يكرر السؤال الذي افتتحت به هذا المقال، هل سيكون هناك ا نموذجا للانحياز الإيجابي في موازنة "المنتصرون" في الحرب العالمية الثالثة تجاريا، وتشكيل كتلة دولية لها موقعها ما بين الكتل المتنافسة الجديدة في واقع ما بعد العولمة ام لا؟؟ وما موقع العراق في كل ذلك؟؟ لعل من أولويات الحديث عن فلسفة الدولة ما يمكن ان يتجسد في نموذج منظورها للعلاقات الخارجية في عالم المتغيرات الاقتصادية المتسارعة بسرعة وقائع الذكاء الصناعي، والسؤال عراقيا عن فاعلية وجود مفهوم تطبيقي عراقي لتعريف العدو والصديق بالنموذج الذي كان نوري السعيد ، رئيس الوزراء في العهد الملكي يتعامل به ، فلم يظهر في عراق ما بعد سقوط النظام الملكي ثم الجمهوري في عهوده الثلاثة ما بعد 2003 من يمتلك قدراته في التعاطي مع وقائع الهيكل العام للدولة غير المؤسسة بوجود نماذج من نفوذ الدولة الحزبية العميقة او الدولة الموازية من خلال المال السياسي المنهوب بحماية جماعات مسلحة لها ارتباطات واضحة مع محاور إقليمية مثل المحور الإيراني او التركي او المصالح الخليجية سواء كانت سعودية او إماراتية او قطرية.
لذلك توقع ما يمكن ان يكون خلال الدورة البرلمانية المقبلة ،من نهاية عام 2025 ،عام الانتخابات العراقية لتشكيل الحكومة المقبلة في التعامل مع ثلاثة ملفات تمثل محاور السياسة الخارجية العراقية في فرصها وتحدياتها على خط عمل واحد محفوف بالمخاطر تمثل الالتزام باتفاقات الاطار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وإمكانات الاستثمار المشترك في الاقتصاد الأميركي من خلال عقود مشتركة في الصناعات النفطية والغازية والطاقة، فضلا عن الوجود العسكري المطلوب في العراق لحماية مصالحها في مشروع الشرق الأوسط الجديد، ويمكن للعراق التأثير من خلال فرضيات استثمار الأموال النفطية المودعة في الخزانة الامريكية الى مشاريع مشتركة مع كبريات الشركات الامريكية. الملف الثاني، تعزيز الشراكات التجارية مع منظومة مجلس التعاون الخليجي ومشروع الشام الجديد والمشروع الابراهيمي في الشرق الأوسط الجديد لتأهيل وتشغيل طريق التنمية بما يعزز تكامل الاقتصاد العراقي مع دول المنطقة وتوليد فرص العمل لمواجهة مرحلة جفاف مقبلة ستؤدي الى هجرة فلاحية واسعة باتجاه المدن يمكن ان تشكل بؤرة عاصفة بوجود أي حكومة مقبلة.
الملف الثالث، رسم استراتيجية عدم انحياز عراقية، تتعامل إيجابيا مع جميع المعضلات الدولية والإقليمية ببوصلة مصلحة العراق أولا وتلك مهمات تتطلب وجود رجال دولة قادرين على فهم لغة النار والماء كما يفعل وزير خارجية إيران عباس عراقجي في مقالته على الواشنطن بوست، وكما فعل غيره من الشخصيات الإيرانية، وربما يحتاج العراق الى رجال من هذا النوع أكثر مما هي وفرة قادة فصائل حزبية مسلحة في نظام المحاصصة.
▪︎ العراق والبساط الأحمر
وفق هذا التصور، يبدو من الممكن للعراق الجلوس على طاولة البساط الأحمر للمنتصرين بدلا من انتظار نتائج الحرب التجارية دوليا او حلول الملف الإيراني او السوري او التعامل المباشر مع تداعيات الوجود الإسرائيلي في مشروع الشرق الأوسط الجديد، او الدخول المباشر في الاتفاقات الابراهيمية للتطبيع مع إسرائيل، وربما يتمكن العراق مع دول أخرى احياء حركة عدم الانحياز وتقوية دورها في العلاقات الدولية خلال مراحل زمنية مقبلة. على العكس تماما من هذه الصورة، يواجه العراق فرضيات التوظيف الإقليمي لتنفيذ اجندات مصالح إقليمية ودولية ربما تتقاطع مع مصلحة عراق واحد وطن الجميع وهذا ما جرى ويجري مع الأسف طيلة عقدين مضت، ويتطلب إعادة نظر جدية من الاباء المؤسسين للعراق الجديد ما بعد 2003 لما يمكن ان يصب الماء على زيت الحرائق التي نتجت حتى اليوم بسبب تلك الاجندات لأحزاب الفصائل المسلحة، وتلك معضلة عدم ديمقراطية تكوين هذه الأحزاب التي ما زالت تحتفظ بقيادات "تاريخية" تتعامل مع واقع براغماتية الدولة بعقلية "ثورية" المعارضة ما قبل 2003 ، بما يكرر السؤال من جديد، هل يمكن تعريف العدو والصديق في ضوء مصالح عراق واحد وطن الجميع ام لا ؟؟ الإجابة واضحة في قصة بسيطة ان أحد امراء الممالك بعث للإمبراطور وفدا من شاعر مرهف الاحساس وفارس مقدام ونجح الوفد في مهمته الصعبة في تبادل الأدوار بين جزل قوة لغة الشاعر ووقفة الفارس المقدام، فهل سيكون للعراق أدوار في نموذج عدم الانحياز المقبل ام لا؟؟ سؤال مطروح للأيام لعلها تجيب عليه.








