
فلسفة دولة... الحوكمة في إدارة النزاعات

مازن صاحب الشمري
22/4/2025، 10:46:41 ص
تهتم مراكز الدراسات في التعامل مع المنعطفات الحادة التي تفشل فيها قيادات الدولة في حل نزاعاتها الداخلية او الإقليمية او الدولية عبر طاولة المفاوضات السياسية للتحول الى ميدان المعارك سواء اكانت عسكرية او اقتصادية او إعلامية، إذا كان ذلك مفهوما موضوعيا وعمليا في مختلف العصور، فان استشراف عصر الذكاء الصناعي يتطلب تطورات جدلية في ذات المعايير للتعامل مع مفهومي " الحرب والسلام" وتوظيف كل مدركات الفكر والعلوم الحديثة في اطروحات متجددة تحت عنوان عريض لحوكمة إدارة النزاعات.
ضمن هذا المنظور نشر معهد "شيتام هاوس" المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن دراسة تحت عنوان "منع النزاعات تحت الضغط" كتبت الدراسة من قبل ثلاثة باحثين ونشرت بداية نيسان 2025 ، لفهم تلك التطورات في قدرات الحوكمة لإدارة النزاعات وفق منهجية نظرية، وكأن الدراسة تريد ان تخبرنا ان لإدارة النزعات اسساً واساليبٓ لابد من اعتمادها وفق مصفوفة حلول وتطبيقات عملية تنقل المصالح المتعارضة الى طاولة التشريح وتستنج تلك الوسائل الناجعة في التوصل الى افضل الصيغ المطلوبة لصالح الاطراف في معادلات توظف الامكانات المتاحة لكل طرف من اطراف الصراع. وفق هذا المنظور، من الواجب علينا ونحن نتعامل مع فلسفة الدولة في عنوان هذه المقال، من طرح التساؤلات المفترضة عما مطلوب عراقيا في حوكمة قدرات الدولة في ادارة النزاعات ومدى امكانية تطبيق اعلان دستوري او مدونة سياسات عامة مقترحة وليس فقط استدراك ما يطرح في مثل هذه الدراسات وتلك الابحاث دوليا. تكشف الدراسة البحثية عن مفارقة خطيرة، ففي الوقت الذي تتعقد فيه النزاعات وتتعدد أسبابها، فيما تتراجع موارد الوقاية منها، وعلى هذا الأساس، ينبغي ألا تقتصر الجهود على "إطفاء الحرائق"، بل يجب التوجه نحو بناء أنظمة مرنة واستباقية تعتمد على الشفافية، التشاركية، والعدالة الاجتماعية، إن الانتقال من نموذج تدخلات منفصلة إلى نموذج شمولي ومترابط هو المفتاح لتجاوز نزاعات المستقبل. وتتناول الدراسة، عبر تحليل ثلاث دراسات حالة للازمات (جورجيا، الهند - باكستان، كينيا)، مع توظيف منهج تحليلي يستند إلى مقابلات نوعية ودراسات ميدانية ممتدة، وفق الاتي:
اولا - الوساطة: تُعد أحد أبرز أدوات فض النزاعات، إلا أن فعاليتها بدأت تتراجع في بعض السياقات بسبب تآكل الشرعية لدى الوسطاء التقليديين مثل الولايات المتحدة. برزت أهمية إشراك المستويات المختلفة من الوساطة لتعزيز الشرعية المحلية وبناء الثقة.
ثانيا - إدارة الحدود: تلعب دوراً محورياً في النزاعات ذات الطابع الإقليمي. لكن "تصلب" الحدود (Borderization) كما في حالة جورجيا، يفاقم التوترات ويقوّض فرص بناء السلام. في المقابل، فإن التعاون الحدودي كما في شمال كينيا يمكن أن يُسهم في تقليل العنف.
ثالثا - إدارة الموارد: في ظل التغير المناخي والضغط على الموارد، تُعد الإدارة المشتركة للموارد مدخلاً حيوياً لتفادي النزاعات المستقبلية. إلا أن هذه الاستراتيجيات تتطلب آليات مراقبة طويلة الأمد ومراجعة دورية للاتفاقيات القائمة.
رابعا - المشاركة المتعددة: تُعد من الأدوات الأساسية لتحقيق سلام دائم، لكنها تتطلب وقتاً طويلاً وثقافة سياسية شاملة تراعي مشاركة الأقليات والمهمشين، كما أظهرت التجربة الكينية.
خامسا - إصلاحات الحوكمة: تعاني هذه التدخلات من مقاومة داخلية بسبب المخاوف المرتبطة بالسيادة أو الفساد البنيوي، إلا أنها ضرورية لضمان استدامة السلام.
سادسا - التكنولوجيا والاتصالات: رغم أن التقنيات الحديثة (مثل أنظمة الإنذار المبكر) تقدم فرصاً لتعزيز الشفافية، إلا أن الاستخدام غير المنظم لها – لا سيما على وسائل التواصل – قد يزيد من الاستقطاب ويؤجج النزاعات.
ناقشت الورقة ثلاثة نماذج من ادارة الازمات تمثل انواعا مختلفة لكل منها مميزاها وظروفها تمثلت في:
اولا - جورجيا: نزاع انفصالي وتجاذب جيوسياسي تمثل في أزمة تؤدي إلى عزل القرى وتجويع مناطق مثل غالي وخورفالتي، فيما نجح التعاون الصحي في مبادرة ناجحة من الجانب الجورجي لعلاج سكان أبخازيا وأوسيتيا في مستشفيات جورجية، كوسيلة لبناء الثقة، كما قدم التعاون في نقل الطاقة من محطة إنغوري المشتركة بين جورجيا وأبخازيا نموذجًا فريدًا للتعاون القائم على الاعتماد المتبادل.
ثانيا - صراع الهند وباكستان المزمن ذو البعد النووي، المتمثل في العسكرة على الحدود بسبب النزاع حول كشمير والتبادل الناري المتكرر على خط السيطرة يؤكد هشاشة التوازن، يضاف الى ذلك الإرهاب العابر للحدود في أحداث مثل هجمات مومباي 2008 التي عمّقت الشكوك ومنعت الحوار السياسي المستدام، وذلك الخطاب السياسي العدائي حيث يتم توظيف النزاع سياسياً داخل كلا البلدين، مما يكرّس حالة العداء طويلة الأمد.
ثالثا - كينيا والنزاعات المجتمعية حيث ساهم الدستور الجديد في توزيع أفضل للموارد، لكن الفساد ما زال يعرقل التنفيذ في مبادرات مثل مراقبة الميزانيات المحلية التي أسهمت في تحسين الشفافية، فيما لم ينجح التمكين المجتمعي كليا منح النساء دورًا تاريخيًا في منع العنف، خاصة عبر لجان السلام النسائية. يضاف الى ذلك تغير المناخ الذي يشكّل تهديدًا متصاعدًا، ويؤجج النزاعات حول الماء والرعي، مما استدعى تدخلات تكاملية بين إدارة الموارد وبناء السلام.
لعل ابسط تعريف للحوكمة يتمثل بانها "مجموعة السياسات أو القواعد أو الأطر التي تستخدمها الشركة لتحقيق أهداف أعمالها، وهي تحدد مسؤوليات أصحاب المصلحة الرئيسيين". وايضا تعرف بكونها "هي الإدارة الجيدة لجميع المؤسسات في الدولة من خلال سياسات وآليات وممارسات تقوم على الشفافية والمشاركة والمساءلة وسيادة القانون ومكافحة الفساد والسعي لتحقيق العدالة وعدم التمييز بين المواطنين والاستجابة للاحتياجات وتحري الكفاءة للوصول بالسياسات والخدمات لأعلى مستوى من الفعالية والجودة بما يرضي المواطنين". وتطور هذا المصطلح في ادارة الدولة بكون "الحوكمة الرشيدة ضرورية للتنمية، فهي تساعد الدول على زيادة النمو الاقتصادي، وبناء رأس المال البشري، وتعزيز التماسك الاجتماعي. تصف مؤشرات الحوكمة العالمية أنماطًا واسعة النطاق في تصورات جودة الحوكمة عبر البلدان وعلى مر الزمن" وتعد حوكمة ادارة النزاعات انموذجا "كل ما من شأنه حماية القرار والموارد، لتحقيق أهداف الدول، تلك الأهداف التي وضعها اصحاب المصالح. من المواطنين نحو السلطة في صناديق الاقتراع، وإذا جاء مصطلح الحوكمة، فإن الشفافية أكثر الموضوعات إثارة فيه، ثم حماية أصحاب المصلحة من مختلف شرائح المجتمع، ودرء تعارض المصالح، لذا، فإن أصعب مكونات الحوكمة، تلك التي تعمل على تحقيق هذه القضايا الثلاث.
ولمعرفة أين يقع العراق من هذا المفهوم وتطبيقاته، يبين لنا واقع الحال ان العراق في منطقة بؤر متأزمة، سواء قبل 2003 او بعدها، مما يتطلب وعيا سياسيا منهجيا بمفاهيم الحوكمة وتطبيقاتها لعل البداية الافضل لها في حوكمة الاحزاب السياسية لإنتاج تطبيقات واقعية وموضوعية لحوكمة الجهاز الحكومي للدولة اول اهتمام مركزي فيه حوكمة القوات المسلحة العراقية بمختلف صنوفها، واي مقاربة بين واقع العراق طيلة عقدين ونيف ما بعد 2003، تجعل من هذه المقاربة حالة مطلوبة كليا للتعامل مع مضمون حوكمة النزاعات وفنون ادارتها.
وفق هذا التصور وتلك المقاربة مع افكار الدراسة البحثية عن ادارة النزاعات، يبدو من الممكن القول:
اولا - فاقد الشيء لا يعطيه، وهذا يتطلب ان تنهض الاحزاب العراقية التي تتصدى للانتخابات البرلمانية في حوكمة مؤسساتها كاحزاب وفق الدستور والقوانين النافذة، من دون ظهور مثل هذه الارادة السياسية لاسيما عند الاباء المؤسسين لاحزاب تحالفات العراق الانتخابية في جميع دوراته البرلمانية السابقة، فان ادارة النزاعات الداخلية لن تكون لها مدخلات حلول مصيرية لإحلال "السلام الاهلي المدني"، بل مجرد حلول مؤقتة وتبقى نار النزاعات تحت الرماد بانتظار فرص جديدة في الانقضاض على الاخر وفق فرضيات التدخل الاقليمي والدولي والمناصرة القبلية والمغالبة الطائفية او القومية. وهذا يتطلب علوية الدستور في مادته التي تفيد بان ثوابت الاسلام ومبادئ الديمقراطية واتفاقات حقوق الانسان مصادر للتشريعات، واي نماذج من التلاعب بهذه العلوية الدستورية انما تعني ان الجهات التي تقف وراءها انما تعلن الحرب الاهلية على أطراف اخرى بانتهاك صريح لعلوية الدستور مما يستلزم تدخل القضاء الصريح في هذه الجريمة الدستورية.
ثانيا - في السنوات الأخيرة، أصبحت النزاعات أكثر تعقيدًا، حيث تتشابك الأبعاد السياسية، والبيئية، والرقمية، والدينية، وتتفاقم بفعل تدخلات إقليمية أو دولية، مما يهدد الأمن القومي والاستقرار الاجتماعي والاستجابات الحالية تُركز على إدارة الأزمات بدل الوقاية منها، وتُعاني من ضعف التنسيق وغياب الاستباق بسبب تهميش الفاعلين المحليين
ولابد من مصفوفة "حلول عراقية" في بناء نظام وطني مرن لإدارة النزاعات قبل وأثناء وبعد وقوعها يقوم على تعزيز الحوكمة الوقائية وإشراك المجتمعات المحلية في الحلول وتقوية قدرات الدولة في تحليل الصراعات والتفاوض ضمن بيئة جيوسياسية متقلبة تكون قادرة على ربط التكنولوجيا بالسلام من خلال أدوات رقمية للإنذار المبكر والتحليل.
ثالثًا - محاور السياسة العامة المقترحة، لابد وان تبدأ بتأسيس وحدة رسمية للوساطة المجتمعية والمدنية بعنوان "حوار سلام اهلي مدني" وتدريب الوجهاء المحليين على تقنيات حل النزاعات الحديثة، مع مؤسسات أكاديمية ومجتمعية يمكن ان ينتهي الى تطوير مركز وطني لتجميع وتحليل البيانات من مصادر مفتوحة وميدانية يمتلك القدرات من خلال الاستعانة بالذكاء الاصطناعي لرصد إشارات النزاع (مثلاً: خطابات كراهية رقمية...) ويمكن ان تخصص الدولة ضمن الموازنة العامة كلف إشراك المجتمع المدني في دعم لجان السلام المحلية، وتمكين النساء والشباب كوسطاء داخل المجتمع وتخصيص ميزانيات لصناديق دعم مبادرات المصالحة الشعبية.
اما إصلاحات الحوكمة والشفافية فتربط النزاعات بمسبباتها (الفساد، التهميش، غياب العدالة) وتعمل على تطوير مؤشرات لقياس العدالة الاجتماعية والتنمية في مناطق الهشاشة وتقوم على إصدار مدوّنة سلوك لمزودي المحتوى الرقمي ومواقع التواصل، وايضا إنشاء مرصد إلكتروني لرصد الخطاب التحريضي والتدخلات الرقمية في النزاعات.
رابعًا - تتجسد أبرز أدوات التنفيذ في نفاذ القانون ضمن إطار واضح (قانوني الاحزاب والانتخابات) تعمل من خلال وحدة تنسيق مركزية متعددة القطاعات (وزارات، مجتمع مدني، جامعات) ولها شراكات إقليمية ودولية لتبادل البيانات والخبرات على ان تمنح الدعم المالي من المانحين - الموازنة العامة عبر صندوق خاص.
خامسًا - تتمحور اهم التوصيات لصنّاع القرار وقيادات الاحزاب في إصدار (اعلان دستوري) او (مدونة سياسات عامة) كوثيقة مرجعية وتقوم بتعيين مفوض خاص لإدارة النزاعات والوقاية منها والعمل على شراكة ثلاثية بين (الدولة – المجتمع المدني – المؤسسات البحثية) وإدراج هذا الإطار ضمن الاستراتيجية الوطنية للأمن القومي أو التنمية المستدامة واعتماد خريطة طريق زمنية لمراحل التنفيذ، مع مؤشرات قياس للأداء.
إن سياسة إدارة النزاعات لم تعد خيارًا، بل ضرورة وجودية في دول تواجه تحديات جيوسياسية مركّبة، الاستثمار في الوقاية أقل تكلفة وأكثر استدامة من معالجة النزاع بعد اندلاعه، وتعزيز الشراكة بين الدولة والمجتمع والتكنولوجيا هو المسار الذكي نحو الاستقرار.








