
فلسفة دولة... اجيال الشباب وفجوة الاستجابة السياسية

مازن صاحب الشمري
28/4/2025، 11:43:58 ص
في دراسة صدرت في تشرين الثاني 2024، تحت عنوان "شباب العراق كوكلاء للتغيير: دعم المشاركة المدنية بقيادة الشباب بعد حركة تشرين"، حاول باحثون في معهد شياتام هاوس البريطاني استكشاف تحولات المشاركة المدنية للشباب العراقي بعد حركة الاحتجاجات الشعبية في تشرين 2019. تُركِّز على كيفية تحويل الشباب لغضبهم من الفشل الحكومي في تلبية مطالبهم (مثل البطالة والفساد وغياب الفرص) إلى أشكال مبتكرة من "المقاومة البناءة" عبر السياسات اليومية، والنشاط المدني، وريادة الأعمال، والدفاع عن حقوق الإنسان والبيئة.
فيما سعى معهد كارينغي للأبحاث استكشاف رغبات الجيل الشاب الأمريكي ما بين 15-21 عام، الذين اما سيتحولون الى ناخبين او سيكون بإمكانهم الترشح لعضوية الكونغرس الأمريكي وربما الترشح للرئاسة ودخول البيت الابيض وأطلق عليهم وصف "الجيل Z" وحينما نتحدث عن فلسفة دولة، يمكن ملاحظة توالد الحاجات المجتمعية في عموم التجارب الدولية، وربما الكثير من جيلي يتذكرون حركة سارتر الطلابية في فرنسا، ويتذكرون متغيرات العادات المجتمعية وتأثرها بالنماذج المستوردة في زمن لم تكن فيه وسائل التواصل الاجتماعي كما هو حالنا اليوم، وكان يصح القول ان العالم اجتمع في الموجات القصيرة للاثير "الراديو" فانه اليوم يتجمع في شاشة الموبايل المرتبط بخدمة الانترنيت. كل ذلك يطرح فرضية هذا المقال، كيف تتوالد الحاجات المجتمعية للأجيال العراقية الشابة إذا ما قورن بمعايير التعامل مع جيل "Z" الأمريكي وما حجم الاستجابة الواعية لها من قيادات الأحزاب السياسية المتصدية لسلطان الحكم في عراق اليوم؟؟
مثل هذه المقالات تجعل الذاكرة ترجع الى صفوف الدراسة في كلية العلوم السياسية ومناقشات درس الاجتماع السياسي في تحليل نموذجي "الظواهر" و"الأعراف" ونوع العلاقة الجدلية بينهما ، فمثلا اعراف المحاصصة ليست دستورية ولكنها في مقدرات العملية السياسية تعلو وتسمو على الدستور بسبب توافق اجندات الأحزاب لاسيما الإباء المؤسسين لها، فيما لا تعتبر احتجاجات تشرين من اعراف العملية السياسية ولم تؤخذ بعين الاعتبار في تحديد نسبة 1.7 لمعيار سانت ليغو في قياس الربح والخسارة في نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة باعتبار ذلك من اعراف هذه العملية ولا يتعد كونها مجرد ظاهرة حصلت وانتهت. لكن ذات الأحزاب تعاملت بحذر من احتجاجات تشرين واستوعبتها في الانتخابات المبكرة ونظام انتخابي يتعامل مع التمثيل المباشر في الدوائر الانتخابية، بكون تلك الاحتجاجات مجرد ظاهرة لم ترتق الى مستوى الأعراف السياسية، بما يؤكد مصداق القول ان قيادات الأحزاب السياسية لم تفهم مضامين توالد الاستجابة المجتمعية، بل قبلت ان تكون نتائج الانتخابات مسلوبة المشروعية بعزوف 80% او اقل من الأغلبية الصامتة، مقابل الشرعية القانونية المقننة في قانون الانتخابات فقط الذي كان أصلا ضمن اعراف التوافق في تشكيل مفوضية الانتخابات التي تتعامل مع النص القانوني المعدل ما بعد انتخابات 2021 لتاتي بقانون سانت ليغو من جديد في قانون الانتخابات لمجالس المحافظات ثم لمجلس النواب في الدورة المقبلة. كل ذلك يفصح ان التعامل مع الراي العام العراقي ومع توالد الاستجابة المجتمعية فقط تحت عناوين الضغط الشعبي لاسيما الشبابي العارم في احتجاجات تشرين 2019 ، فيما لم تظهر أي نشاطات حزبية او لمراكز الأبحاث جامعية كانت ام منظمات مجتمع مدني لاستطلاع الراي العام العراقي بمعايير ذات تعامل معهد كارينغي في الولايات المتحدة مع ما وصف بجيل الشباب" Z " والوقوف عند تطلعاته ومعالجة قضاياه الملحة لاسيما في عراق اليوم والغد معالجة موضوع البطالة التأهيل للعمل في الشركات الأجنبية بدلا من التظاهر امام مقرات شركات النفط الاستخراجية على سبيل المثال لا الحصر.
ترى دراسة شياتام هاوس ان حركة تشرين 2019 قد مثّلت نقطة تحول للشباب الذين طالبوا بإصلاح النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية (المحاصصة)،رغم القمع الدموي (مقتل 600 متظاهر)، خلقت الحركة وعياً جديداً بوحدة الهوية العراقية وضرورة التغيير. هذا التحول من المواجهة إلى "المقاومة البناءة" بسبب تقلص المساحة المدنية، اتجه الشباب إلى المشاركة السياسية عبر تأسيس أحزاب جديدة مثل "امتداد"، لكنها واجهت تحديات مثل الترهيب والاستقطاب من قبل النخب الحاكمة، وحاولوا ريادة الأعمال كبديل للوظائف الحكومية، مع صعوبات في التمويل والبيروقراطية، فيما لم يحقق النشاط المدني قدرات كبرى في الدفاع عن حقوق المرأة (مثل معارضة قانون الأحوال الشخصية) وحماية البيئة (مثل أزمة المياه في البصرة وجفاف الاهوار). وتشير الدراسة الى التحديات النظامية (الخطوط الحمراء والشكليات البيروقراطية) في تلك القيود التي فرضت من النخب الحاكمة والميليشيات، مثل الترهيب القانوني (اعتقال نشطاء)، وتضييق الحريات (مشاريع قوانين تقييد التعبير)، وتعقيد إجراءات تأسيس المشاريع أو المنظمات، مما يخدم مصالح النخب المرتبطة بالسلطة. في المقابل، تجد الدراسة في عدم ظهور نتائج إيجابية للمبادرات الدولية في تمكين الشباب او تلك المبادرات الحكومية مثل "المجلس الأعلى للشباب وبرلمان الشباب، وتعتبر كلا النموذجين شكلاً دون مضمون، إذ تفتقر إلى تمثيل حقيقي للشباب أو إرادة سياسية للإصلاح. اما المشاريع الدولية، فتجدها هذه الدراسة قد ركّزت على التدريب التقني دون معالجة الجذور الهيكلية مثل الفساد، مما يؤدي إلى إضعاف الحركات الشبابية وليس بناء مقومات قوتها. من خلال القراءة التحليلية لدراسة شياتام هاوس ، تبرز إشكاليتين مهمتين في فهم ديناميكيات التمثيل السياسي في العراق:
أولاً: أصحاب المصلحة المخفيون هم الفاعلون الحقيقيون الذين لا تعترف بهم الدولة كقوى منظمة، لكنهم يمتلكون قدرة عالية على التأثير، ينطبق ذلك على الشباب الذين قادوا احتجاجات تشرين او شاركوا فيها، وهم يمثلون غالبية سكانية غير ممثلة سياسياً، لا يجري التعامل معهم كمشاركين في صناعة القرار، بل كفاعلين "طارئين" يتم احتواؤهم أو تهميشهم. تكمن خطورتهم في كونهم "كامنون" إلى أن تستفزهم الظروف، فينقلبون إلى قوة احتجاجية شاملة، كما حدث في 2019، إن تجاهل هؤلاء الشباب يعني بقاء النظام السياسي في حالة قلق دائم أمام احتمالات انفجار مجتمعي متكرر.
ثانياً: أصحاب المصلحة الوهميون هؤلاء هم الكيانات التي تُقدَّم أمام الرأي العام أو الجهات الدولية كممثلين للشباب، مثل "المجلس الأعلى للشباب"، أو "برلمان الشباب"، أو بعض منظمات المجتمع المدني التي لا تمارس أي تأثير فعلي، بل يتم توظيفهم من قبل ذات احزاب المحاصصة لتجميل صورة العملية السياسية، دون منحهم سلطات تنفيذية أو تمثيلية حقيقية. هذا التوظيف لا يعبّر فقط عن غياب إرادة الإصلاح، بل يساهم في تهميش الشباب الحقيقيين، وتكريس حالة من "التطبيع مع الإقصاء"، ما ادى في النهاية إلى فقدان الثقة التامة بالعملية السياسية.
وفق ما تقدم، يبدو من الممكن القول، إن استمرار الفجوة بين أجيال الشباب العراقي والنظام السياسي القائم يُهدد بتحوّل البلاد إلى ساحة اضطراب دائم. ما لم تتحول ديناميكيات الحراك الشبابي إلى أدوات تنظيمية استراتيجية، فإن مصيرها سيكون التراجع أو التفجر غير المنضبط. والعمل على تحويل الحراك الشبابي إلى "ادراك سياسي" تبدو الاحزاب العراقية ما زالت بحاجة إلى تطوير بنيتها التنظيمية حتى تصمد أمام التحديات وتصبح شريكًا مع الشباب في بناء الدولة، لا تتعامل معه مجرد ردة فعل احتجاجية، والتحشيد والمناصرة لضمانات دستورية وتشريعية تضمن لهم حق المشاركة، وحرية التعبير، والحماية القانونية للنشطاء الشباب من خلال تخصيص ميزانيات تطوير حقيقية لإعادة تأهيل الخريجين في نظام التعليم المستمر داخل الجامعات بما يجعل الشباب العراقي مؤهلا للعمل في الشركات الاجنبية، كذلك تمويل حاضنات أعمال في نظام الحاضنات المدعومة من القطاعين العام والخاص لعل ابسط مثال على ذلك قطاع تشغيل مواقع الطاقة الشمسية او مواقع تشغيل محطات الانترنيت او اسواق البيع بالتجزئة وخدمات ما بعد البيع بما يجعل تلك الحاضنات ترتبط بعضها بالبعض الاخر في تنمية اقتصادية تستهدف انتاج معرفة راقية تكون على استعداد لتدوير الخبرة الوطنية واعداد اجيال جديدة لسوق العمل. وهذا يتطلب أن تتم مراجعة كل قانون أو سياسة من زاوية "كيف ستؤثر على جيل الشباب؟" سواء في سوق العمل، أو التعليم، أو الحياة السياسية. وما زالت الفرصة متاحة الآن أمام كل القوى السياسية، وقوى تشرين والنخب المستقلة لتأسيس حركات سياسية هجينة، تُعيد بناء الثقة مع المجتمع وتستثمر الهياكل القانونية المتاحة من أجل التغيير، في التحرر من فلسفة الامتصاص والتهدئة، وتتجه نحو بناء شراكة حقيقية مع الشباب، قائمة على الاعتراف، لا الإقصاء
لست بصدد المقاربة الكلية بين اهتمام معهد كارينغي بالجيل الأمريكي الجديد وتلك الفوائد التي يمكن ان يجنيها كلا الحزبين ( الديمقراطي والجمهوري) في التعامل مع هذه الطموحات واولويات الاهتمامات في العمل الحزبي وبرامج الانتخابات سواء للكونغرس او للرئاسة الامريكية، الا ان ابرز تلك المعايير تتمثل في الكشف عن الطموحات التي لها افاق مفتوحة في الولايات المتحدة فيما لم تبتعد كثيرا عن الطموح بالحصول على وظيفة ثابتة الدخل للشباب العراقي لاسيما من الخريجين، فهناك شركات كبرى أمريكية ترعى الكفاءات المتميزة في زمالات دراسية مدفوعة الاجر وتنتظر توظيف هذه الكفاءات، بينما ما زالت المصارف الاهلية وشركات القطاع العراقي بعيدة عنها كليا ولم تبادر الحكومات المتعاقبة لاقتراح مشاريع قوانين تنظم الضرائب مقابل مثل هذه البرامج التي كانت معروفة في العهد الملكي وتلاشت في العهد الجمهوري بعد قرارات تأميم القطاع الخاص في أواسط الستينات، ولم تظهر أي مبادرة طيلة عقدين ونيف مضت ما بعد 2003 . النقطة الأخرى، ان اغلبية قيادات الأحزاب العراقية من الكهول وعجائز العمل السياسي أواسط أعمارهم لا تقل عن الستين عاما في أفضل الأحوال، فيما يمكن ملاحظة ان الأحزاب في نظام برلماني تعتمد دورية الانتخاب لرئاسة الحزب وعضوية لجانه الأساسية لعل أبرزها المكتب السياسي وتكوين أجيال قائدة لهذه الأحزاب بدلا من التوارث العائلي لقيادة الأحزاب، ولعل في هذا المفترق لابد من العودة الى تحليلات عن الواقع الحزبي في العراق، حيث لم تظهر مؤسسات حزبية اكثر من اقطاعيات مجتمعية تجتمع على بؤرة من المصالح اقرب الى نموذج الاقطاع الزراعي في العهود العثمانية، التي كانت تمنح الاقطاعي الأراضي مقابل الحفاظ على الامن ودفع الضرائب. فيما الواقع الدستوري أسس واجبات التشريع في ثلاثية ثوابت الإسلام ومبادئ الديمقراطية واتفاقات حقوق الانسان، وقانون الأحزاب قد تضمن نصوصا عن عدم قبول مشاركة الفصائل المسلحة في العملية السياسية من خلال صناديق الاقتراع لضمان مدنية الدولة وعدم عسكرة المجتمع. اذا حاولت المقاربة بين معايير كارينغي في التعامل مع الأجيال الشابة الامريكية وبين الأجيال المقبلة العراقية، يمكن ملاحظة عمق الفجوة بين اجيالنا العراقية المقبلة وبين قيادات الواقع السياسي المفروض بشرعية قانونية من دون مشروعية دستورية بعد غياب اغلبية صامتة وعزوفها عن المشاركة في الانتخابات، فيما يمكن ان يكون واقع هذه العلاقة الا بنموذج "النار تحت الرماد" وتهدد دائما باحتجاجات عاصفة يمكن ان تعيد أجواء احتجاجات تشرين مرة أخرى وأخرى فيما الحلول بسيطة ومتوفرة تبدأ بنموذج استطلاع أولويات واهتمامات الأجيال المقبلة وبيان اليات وأساليب اشراكها في العملية السياسية بدلا من اهمالها وعدم التماس المباشر مع الأغلبية الصامتة .
رغم غياب الاحتجاجات الجماهيرية حالياً، فإن سخط الشباب العراقي لم يختفٍ، بل تحول إلى أشكال يومية من المقاومة اللفظية على مواقع التواصل الاجتماعي على سبيل المثال لا الحصر، وستكون الانتخابات المقبلة اختباراً مزدوجا لقدرات الشباب على تحويل غضبهم إلى قوة سياسية منظمة، خاصة إذا تجاوزوا الانقسامات ووحدوا جهودهم تحت شعارات تشرين، ويبقى نجاحهم مرهونا بدعم داخلي بعناوين الإصلاح السياسي داخل مؤسسات الأحزاب المتصدية للسلطة والمشاركة الأكثر فعالية في هذه الانتخابات (إصلاحيون) وخارجي (مشاريع مستدامة)، وكذلك بقدرتهم على تجنب الاستقطاب أو العنف، يضاف الى ذلك قدرات الأحزاب الحالية على كسب حقيقي لطاقات الشباب للاندماج في العملية السياسية كأصحاب مصالح فاعلة وليس فقط التوهم بوجود مسميات وظيفية داخل احزابهم للتمجيد بزعماء هذه الأحزاب. وبالمقاربة بينهم كلما تقدم في ضوء الانتخابات البرلمانية 2025، يبدو ان مستقبل الحراك الشبابي يواجه تحديات استمرار هيمنة الأحزاب التقليدية المدعومة بالموارد الحكومية والعسكرية مقابل انقسامات داخل الأحزاب الشبابية الناشئة وتراجع شعبيتها كما حدث مع "امتداد"، وارتفاع مخاطر العنف ضد المرشحين الشباب المعارضين. اما الفرص فتبدو خارج اهتمامات الأحزاب او التحالفات الانتخابية المقبلة في تعبئة الناخبين الشباب (60% من السكان تحت 25 سنة) عبر خطاب يعكس مطالب تشرين في محاربة الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال تحالفات مع شبكات محلية مثل النقابات والإعلاميين، كما حدث في ذي قار 2021.








