
فتنة العقل السياسي العربي والنهضة المتخيلة - 2 -

د. قاسم جمعة
11/5/2025، 12:35:34 م
▪︎ الماضي المقدس والمستقبل المتخيل
العرب اصدقاء جميل الكلام يطبلون بنفس اللحن عن ماضيهم المنسي، لابد من اعادة الماضي الى الحياة، من جديد بعد ان طوته الايدي، بالقوة،لاننا بدونه كما يقولون، يتامى، فلزم الامر الطاعة والانصياع لأوامر صناع التجهيل العربي وتعمية حقه في الحرية والعدل والحياة... ولهذا طلت علينا الحركات السياسية الاسلامية وابناؤها، وفرح لظهور وحشها كل الحالمين والمهمشين، عسى ان يجدوا ما طال انتظاره. فالعلم والاخلاق والسياسة من عندنا كما يقولون، ولايصرح العالم بالسرقات المأخوذة من جواهرنا المدفونة في سجلاتنا العتيقة.. وهذا بدوره خلق نمط من خطاب مخصي للعقل والارادة"يدعو الى الخلاص برفضه الحاضر وتكسير مؤسساته ومرتكزاته، واعادة تكوين مقومات الذات بأستحضارعبر الماضي القدسي ونماذجه الطاهرة من شوائب الزيف والضلال اي ادخال الدين في السياسة وترشيد السياسة اعتمادا على الدين، واضفاء ما يلزم من ابعاد اخلاقية على الممارسة السياسية ". وهو الذي اتضحت معالمه بسبب الازمات الاقتصادية والسياسية وفشل الحركات الوطنية واستبداد الاحزاب وبروز الطائفية ونشر الحداثة الاستهلاكية وانهيار القيم والهجرة والفساد واستخدام الدين كسلطة لضرب اليسار والتوجهات المغايرة لنمطها الشمولي المقدس فاصبح العزاء في الماضي وسحره ودوره المتخيل في حل المعضلات وخلقه للتوازن بين الانا والاخر... فالجماعات الضعيفة لا تجد، كما ننقل عن برهان غليون و "التي تدمرها الضغوط الخارجية الطبيعية ،سوى الارتداد نحو حلم ترسيخ التضامن الماهوي للدفاع عن نفسها كجماعة".. والحل برأيها، هو الاسلام الذي تنافست على اثره، محاولة السيطرة عليه ،ثلاث جهات كما يرى غليون الجماعات الدينية والدولة والعلمانيون ،في محاولة لتشكيل رؤية وخطاب، تنهض به الامة العربية من عقمها النهضوي. فالدعوة النضالية بوصفها اصلا مهما للحركات الاسلامية المعاصرة.،هو ما يبرر حديث الاسلام السياسي عن طوائف المحبطين والمعوزين والمحرومين على اختلاف تنوعهم. لانه الحل للأشكال الحضاري. فالقيم أندثرت فلابد من الرجوع الى تراثنا القيمي المتجلي في الاسلام وغنى قيمه الانسانية. ان غاية الحركات السياسية الاسلامية على رأي البعض"لا تتمثل في انتاج الفكراو تغيير الواقع وانما تطبيق التعاليم الجاهزة سلفا وتكسير الواقع اعتمادا على اساليب تنظيمية نشطة توجهها نظرة دوغمائية، تقسم العالم الى خير وشر والى دار الاسلام ودار الكفر وكل من يخرج عن قواعد دار الاسلام، فأن محاربته شرعية، بل وواجبة".لاشك ان هناك مناهج عدة تركت أثرها على العقل العربي ،لكن مما يثير الدهشة ان اغلب تلك المناهج اخذت تستحوذ على عقل المفكر العربي الى ان بات مساجلا الى الدفاع المؤدلج والنضالي، عن منهجه وكأننا امام مذاهب او بالاحرى تحولت تلك المناهج الى مذاهب عند اصحابها ، الامر الذي تنطبق دلالته عند اوجه الفكر العربي المتنوع من تيارات قومية وسلفية وتجديدية ونقدية، اذا استعرنا هذا التصنيف من (طيب تيزيني) في عمله الضخم (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط).
وانقسمت تلك الاوجه فلم نعد نبصر سوى سجالها القاتل ودفاعها المميت عن نفسها. والمناهج أضحت كلاما حول المناهج رغم دعوتها الجادة نحو التطبيق، حول المادة التراثية،ولا أريد ان اكون سوداويا في نقدي،لأني اعتقد جازما ان العربي بقى اسيرا للسجال النضالي على المستوى اللفظي، حول طبيعة العلاقة بين العقل والنقل او بين الفلسفة والدين او العلم والعقيدة قديما وراهنا.. لقد تجاوزت محددات التفكير لدينا القبيلة والغنيمة والعقيدة كما تصور الجابري في مشروعه النقدي،فهناك الاستهلاك والعنف والطائفية والعنصرية والتحزبية... والعربي مرة اسلامي ومرة عروبي ومرة عشائري. ولذا اننا فشلنا وانشغلنا في حوار سجالي ممل وعقلية مناقبية مازوخية تبحث في التراث مع التراث لا لتتجاوز التراث نقديا، بالصورة التي تحقق النهضة المتخيلة في خطاب أغلب مفكرينا..أنتهى عقل الفلسفة وتاريخها عربيا بعد (منقذ) الغزالي رافعا رايته ومعه جيش الظلاميين ،ابن تيمية وابن صلاح الشهرزوري واتباعهم سيد قطب والنووي والقرضاوي..الخ. وهناك من تخيل ان للفقيه سلطته الحاسمة المكملة لحكم النبي وارتقى عقله التخيلي الى ان يكون خليفة الاله والحكم بوصايا فقهية لازمة للمؤمنين، الحكم للاله متمثلا بالفقيه كما قالت ولاية الفقيه الشيعية.. يصف (هاشم صالح) وضع المفكر العربي بذبابة وقعت في قعر قنينة، وهو تشبيه استخدمه (فتجنشتاين) في وصف علاقة المفكر بواقعة تستعصي على الحل، "فمنذ اكثر من قرن والمفكر العربي الحائر يبحث عن مخرج او خلاص، ولكن محال. منذ اكثر من قرن وهو يتخبط في كل الاتجاهات ويحاول كل الدروب، وفي كل مرة ينتهي به الامر الى الجدار المسدود. واحيانا يخيل اليه انه قد اكتشف الحل... ولكن سرعان ما يتكشف حلمه عن وهم او سراب"، وكانت هزيمة الخامس من حزيران 1967، بداية حقيقية لنهاية الحلم الكبير والجميل.
وعلمت الحركات الاسلاموية ان الحل يكمن في تراثنا لا في خارجه، والكفاح او النضال الحق هو هنا لا في مكان آخر. فالحل النهضوي لا يمكن ان يوجد الا في تحرير اللاهوت "ذلك اني لا اعتقد بأمكانية قيام مشروع نهضوي كبير الا على الايمان.. فالتحرر اللاهوتي الذي ندعو اليه سوف يقدم لنا شحنة هائلة من الانبعاث والتجدد والخلاص". وكأننا امام دعوة غير مباشرة بالرجوع الى جهد (محمد اركون) ومساهمته النقدية التحررية للعقل الاسلامي وهوما نفهمه من هامش الكاتب في اخر مقالته، حتى انه يشبه اركون، ب مارتن لوثر وثورته الاصلاحية.؟ انتهى السجال بالتراجع الى الاعتراف، ان اثمن ما يمكن الوصول اليه العبقرية العربية على اقل تقدير، هو تبلور الاسلام السياسي وصعود نجمه على بقية اخوانه الذين (خانوه!) لانهم عرفوا ان النهاية للدين وكفى. وهذه (الحركات الاسلامية) بدورها، راحت تدافع عن خصوصيتها الثقافية، لكنها عندما "تهاجم تقول بعالمية الدعوة الى مبادئ الاسلام وصلاحيتها لكل زمان ومكان". لقد تولدت قناعة انه ينبغي العودة الى الاسلام الاول وتجربة المدينة.لاسيما بعد الازمات التي حلت بالبلاد المسلمة، ازمات ثقافية واقتصادية وسياسية واجتماعية، وهذا ما نلمسه مما كتبه اركون متسائلا عن اليقظة الاسلامية او النهضة بعد افول نجم القومية بعد وفاة جمال عبد الناصر، اي اننا بعد الانحطاط نترقب ماينهض ويصحو من جديد؟! والسؤال المهم هو لماذا تغلب الخطاب الاسلامي التقليدي على سائر انواع الخطاب الاجتماعي؟، لذا يدعوا اركون الى ان ينتقل الباحث العربي "او يجب عليه ان ينتقل من التاريخ الراوي المؤكد للايديولوجية الصريحة او الضمنية التي لايخلو منها اي انتاج بشري،الى التاريخ المثير لمشاكل التفهم والانتقاد لجميع ما وصل الينا مما نسميه التراث". وهذا يتم طبعا عن طريق استخدام المنهجيات المعاصرة التاريخ والاجتماع واللسانيات والتحليل النفسي واجتماعيات المعرفة..الخ، وهو الامر الذي يحصل بعد تجاوز (الحيرة) الثقافية التي يعانيها الباحث العربي من اختياره للنشاط النقدي في قراءة التراث العربي، عبر المنهجيات الانسانية المتاحة لكي تتحقق النهضة المتخيلة!. المهمة المتخيلة التي يضعها اركون تتحقق اذا اختار هذا الباحث المترقب او اركون نفسه للقيام بها، الارتهان الى مايجب عليه، "ان يتتبع الانتاج العلمي الضخم في جميع اللغات وسائر الميادين من السنية وانتروبولوجية واتنولوجية وسوسيولوجية وعلم النفس وعلم تحليل النفس والنقد الادبي والتاريخ. ثم يجب ان يلم في الوقت نفسه بكل ما ابدع القدماء من نظريات واصطلاحات ومناهج ،وما جمعوا من اخبار ومعلومات، لا لينقلوا ذلك الى لغتنا العصرية مع شئ من التعديل والترتيب والتسهيل للموارد، بل ليبرزوا روح كل عصر من العصور واسرار كل علم ووظائف كل مذهب وكل تيار ايديولوجي وانحيازات كل شخصية من الشخصيات التاريخية". انها مهمة شاقة ومتخيلة تقع على عاتق الباحث العربي النهضوي فعليه تقع مسؤولية النقد الممكن وفقا لامكانيته المتاحة لا لامكانيات متخيلة تحتاج الى جيش من الباحثين المتخيلين! فضلا عن ان هذا الخطاب (المتخيل) هو خطاب مقموع ومرفوض وغير حر لا يستمع اليه الناس، لان الجماهير تخدعها السلطة وتستغل الدين لصالح ما تريد ان تؤبده هنا "ان الجماهير اليوم مجندة في الاحزاب السياسية والنقابات النضالية والجمعيات الاسلامية بحيث لا يمكنها القاء السمع الى كلام يبتعد ولو قليلا عن الشعارات المترددة في المظاهرات والجرائد والراديو والمجلات والملتقيات والمؤتمرات والبرلمانات - اذا وجدت - والمساجد والاحتفالات، لا اقول ان الجماهير مجمعة على كلمة واحدة راضية كل الرضى بالخطاب الرسمي. بل اقبال الناس أفواجا على المساجد والجمعيات الاسلامية، دليل على أنهم محتاجون الى الملجأ الامين حيث يجرأون على معارضة ما تحت راية (الاسلام) وهكذا يتلاقى الخطاب الرسمي وخطاب المعارضة في استعمال خطاب (اسلامي) دون ان ينتبه الكثير من المستهلكين لهذا الخطاب الى ان التواطؤ (الاسلامي) بين الطبقة الحاكمة والجماهير يدس نزاعا سياسيا وانفصالا جذريا عن الدين كمنازعة الحق بالحق للحق". ويبدو أننا لا نستطيع الانفكاك من سلطة الماضي، ألا بخلق نمط تربوي جديد يركز على القيم الحيوية التنويرية.ولا التحرر من الافتتان بالراهن الغربي، الا بتعزيز الذات وتخليصها من عقدها المتأزمة. ومن هنا تنبري ضرورة الانشغال بالحاضر المعاش وازماته السياسية والاجتماعية والاقتصادية. بعيدا عن لعنة الفتنة وأستيهامات النهضة المتخيلة.
النهضة العربية التي خاض فيها جملة من المفكرين لم تكن واضحة بالقدر الذي جعلنا نشعر اننا امام نصوص مقدسة لا ينبغي علينا نحن ابناء الراهن التغاضي عما نطقت به نصوص اعلام كبار مثل محمد عبده والافغاني والكواكبي والطهطاوي وغيرهم من حقائق لاينبغي تناسيها. وبالحقيقة ان هذه الفرضية نست انها تغاضت هي بالاحرى عن شروط انتاج ذلك الخطاب المبجل الذي ارتهن لرغبة سياسية انذاك ولم تكن الخطابات النهضوية حرة او خالية من الحلم السياسي الحاكم او بعيدة عن نسق السلطة وكما يقول احد الكتاب "لقد كانت المشاريع النهضوية في تلك الفترة ضمن نطاق من السلطة الباحثة عن التجديد وليس ضمن سياق تغيير التفكير بمعنى القطيعة مع بنية تفكير من اجل استحداث بنية اخرى، فهي مشاريع مزيفة للنهضة وروادها ليسوا سوى مبشرين اكثر منهم مستنيرين، فالطهطاوي كان يتوجه الى السلطة (الخديوي اسماعيل) مبينا ان الاجدر للسلطة هو انتداب الكفاءات واصحاب الخبرات لتوطيد دعائم ملكها، وخير الدين التونسي كان يعرض مشروعه على السلطة (احمد باي)، اما الكواكبي الذي تحدث عن الاستبداد وطبائعه فكان يذهب الى ضرورة تكاتف كل الطاقات بما فيها المحررون السياسيون في المنشورات والجرائد والمجلات لمساعدة السلطة على التحلص من دائها لتعود قوية مهابة".
لم تكن للتيارات الفكرية على نحو الاجمال، رؤية نهضوية حية تراعي الحدث وراهنتيه، الا بالقدر الذي راحت تولي الاهتمام للمنهجية المزمع توجيهها للنص التراثي العربي فتاهت في منطق البدائل كما ينعتها مطاع صفدي، لذا شهدنا صراع بين البدائل، غير مبرر ،صراع يجعل الاولوية الى جدل السابق واللاحق بدلا من الان والحاضر والهنا والذاك، اي اعادة الاعتبار للمكان وتناسي الزمن الحاضر اوالحدث الراهني بما يحمله من شحنات واقعية. فالنهضة غلقت امكانية الوصل بين الفكر والواقع او بين النص والحدث واختلط عندها البعد الايديولوجي بالثقافي وما اصاب الفكر الناهض بمخيلته، من اختلال اصاب الواقع بنفس الداء، فالفكر العربي غدا مأزوما في علاقته بالواقع واللحظات الانعطافية بحسب تعبير صفدي، "انه عاجزعن المشاركة فيما تطرحه هذه اللحظات من تحديات او تساؤلات قد تأخذ طابع الالحاح المأساوي الشامل. وان هذا العجز عن المشاركة فيما تطرحه بين النص والحدث المداهم يطيح بأهم علاقة بين الفكر والواقع، وهي العلاقة الجدلية التي تتميز بها الحضارات الحية". لذا ادى هذا الانفصال بين الفكر والواقع الى انعزال الفكر والحدث الى جهات متقابلة غير متواصلة حيويا. ولقد انعكس هذا الانفصال او كما يسميه صفدي الانفصام التكويني في لفظ النهضة حتى كانت بمثابة الظاهرة الكاذبة اي "كأنما النهضة ليست عينها، لانها لا تحقق النص المكتوب عنها وما يفترضه هذا النص". انها نهضة تعيش بمنطق البدائل الايديولوجية القامع للحظة التغيير الحق والذي لم يحن بعد تحققه، التي تتصارع فيه البدائل لتنتج بدائل اخرى وهكذا.. "فكل البدائل تتبادل امكنتها دونما اي تغيير في المصطلح الاساسي لكل منها.."، انه فكر راكد لا ينتج الا بدائل لا تاريخية .. فكثيرا "ما يخيل للمفكر او الباحث انه يكتشف المنهجية او بعض معطياتها، القادرة على اثبات او ايضاح بعض رموز عن عالم الفكر الضمني الذي لم يكتب بعد، ولكن سرعان ما يتضح لهذا المفكر او لمن ينقده، انه يستخدم منهجية تمت الى فكر البدائل ذاتها التي يود تعريتها". فتداخلت بذلك الانساق الايديولوجية، فالقومي يسكنه الاقليمي والعنصري والليبرالي يسكنه السفلي والرجعي ...انه فكر نهضة يكرر البدائل الزائفة.. لذا "قلما استطاعت النهضة ان تعبر عن ذاتها بفعل نهضوي حقيقي".ويوصي صفدي (بقمع القمع بحسب تعبيره) الممارس على العقل العربي ويطالب ان يكون الفعل النهضوي فعلا فاعلا من خلال الغاء التكرار القاتل للابداع. فالماركسية بديل عن القومية والتنمية بديل عن النهضة الخ..
ان ثقافتنا تعيش بين فك الانشداد للسلف وفك الانشداد للغرب. لقد تعاطى العربي مع ازمته الحضارية بمواقف لغوية دقيقة الوضوح عبر صياغات ادبية مؤدلجة لا فاضحة لما يحصل ولاجله انتهت ثقافتنا في حضيض الادلجة وغياب العلوم الانسانية وكشوفاتها من خطابات النهضة المتخيلة..كماعبر صفدي. كيف نفكر وكيف نحيا وماهي المؤسسات التي تشكلت عبرها عادات تفكيرنا وانماط حياتنا، اسئلة اشكالية لم تمر بها فصول النهضة كما يقول صفدي ،فالنهضة العربية الثقافية الشاملة تتحقق بالعلوم الانسانية ومنهجياتها التي غابت عن ذهن المفكر النهضوي الحالم. وهنا تبرز لنا القدرة التخييلية عن المجتمع العربي الناهض، الذي ينبغي عليه تبني العلوم الانسانية، لانها هي مايحقق له النهضة الثقافية الشاملة، فهو بحاجة الى كل ما يحقق له النهضة المتخيلة في ذهن الصفدي وخطابه البديل، "المجتمع العربي، الذي بدون علم للاجتماع بدون علم للنفس العربية بدون تاريخ مكشوف وكاشف لنا ولحاضرنا ولمن يعايشنا في هذا العالم ،بدون علم للاحصاء حول مختلف ارقامنا السرية، المرفوض اعلانها والممنوع الاقرار بها وبدون طب مجهري ومخبري لامراضنا العربية وبدون علم اقتصادي لثروانتا وخساراتنا وبدون علم سياسي لثوياتنا واحباطاتنا وبدون فعل نهضوي شامل جذري لانسانيتنا وبدون التنمية المبرمجة لامكانياتنا الفعلية وانتاج عربي لتكنولوجيا غير مستوردة". وهو يذكرنا بما طرحه زكي نجيب محمود في كتابه (تجديد الفكر العربي) اذ يؤكد على ان النهضة لا تتحقق، الا بالعزوف عن ثقافة اللفظ والانخراط تحت الاداء، في اشارة منه الى ان العقل العربي عقل لغوي شكلاني غير فاعل لانه سكن في دنيا الالفاظ وغادر دنيا العمل. والتقنية الصناعية هي الحل لمغادرتنا العدم الحضاري الذي ينهش تراثنا، اذ ان هناك امكانية لخلق فلسفة عربية ومواطن عربي جديد، بالاستعانة من التراث وقيمه الحية والغرب وقيمه الراهنة. وتسائل هل توجد لدينا فلسفة عربية وما هي مقوماتها. وهل "ثمة من طريق امامنا يخرجنا من الطرق المسدودة التي نذهب فيها ونجيء لنسير على طريق فلسفي معاصر، يتميز بالطابع العربي المتميز الاصيل نختلف فيما بيننا على ارضه، ولكن في حدود اطره ومبادئه".. والحق يقول زكي محمود "اننا – نحن المشتغلين بالفسفة في الجامعات العربية- قد انصرفنا في معظم الحالات، الى الدراسات الاكاديمية التي نعرض بها موضوعات ومذاهب ،عرضا هو اقرب الى التاريخ منه الى التكوين الجديد المبتكر،لقضايانا الفكرية تكوينا يجيء كاشفا عما هو مضمر في نفوسنا من مبادئ ومثل، ومن ثم كانت لنا في الفلسفة مؤلفات عربية، لكن لم يكن لنا فلسفة عربية نجري على فلكها، وندور حول مدارها". وهو يرسم لنا تخطيط اولي لما "قد يصبح ان يكون اساسا لفلسفة عربية، نقيمها، تعبيرا عن وجهة نظرنا ،المنبثقة عن جذور ثقافية غائرة في نفوسنا"، تخطيط يوحد بين تنافر العلم والقيم، اي بين الغرب والتراث العربي على التوالي مروجا لتياره (الوضعي المنطقي) ومقاربته من الوجودية المؤمنة، الذي هو تيار لا ينفر منه العربي فهو يوفر له هواء طلق بعكس التيارات الفلسفية الاخرى. ولا عجب ان اغلب خطاباتنا انحسرت في صورة تبدو ثنائية لكنها في الصميم واحدة.اقصد انها رؤية دينية والاخر نفسه،ينظر الينا بوصفنا ممثلي لثقافة اللاهوت الاصولي الذي اصبح العدو الاكبر للحضارة الحديثة حسبما يقول هاشم صالح، الذي يتسائل قائلا "لماذا اصبحت محاربة الغرب غاية لا وسيلة تنتهي بأنتهاء مسبباتها؟ لماذا اصبح الخطاب السياسي العربي مع استثاءات قليلة، محتكرا من قبل القومويين العرب او الاصوليين الاسلامويين؟ لماذا تحولت كل الخطابات التي نقرؤها في الجرائد والمجلات والتلفزيونات والمؤلفات الى خطاب واحد يهدر صاخبا من المحيط الى الخليج يكره الغرب واحتقار الغرب؟...وهل هذه الامتثالية الاجماعية المخيفة دليل صحة وعافية ام علامة على المرض والانحطاط؟". ربما ما يدهش حقا اكثر في خطابات مفكرينا ،انهم انشغلوا بالحلول ونسوا المشكلة الحقة التي نعانيها ،بل احيانا ادرك كم التعب الذي يكابده هولاء في الطحن الكلامي لاننا لابد ان ننهض وكفى. والامل بالتغيير يدفعنا الى الفعل الحقيقي!.
والسؤال هل يمكن ان نكون نهضة عربية بعد كل تلك الانشغالات الفكرية التي طالت اغلب اوراق مفكرينا، ام ان الامر لايتعدى تخيلات تدفع بنظيراتها الى الوجود لان الفكر العربي استعار منهحه من غيره فابى المنهج الا ان يكون اداة عقيمة لا تنير ما يريد اصحابنا العرب؟. يبقى ان نقول هل النهضة فعل فردي ام جماعي؟ واذا سلمنا انه فعل تقوم به الجماعة فعن اي جماعة نتحدث وماهي وسيلتها للنهوض وكيف ومتى... اسئلة بحاجة الى مخيال يزيح عنا وهم الخيال لكي يثمر فعل تقوم به مؤسسات مهمومة بالفعل النهضوي المنشود. فكيف نتسائل عن (الجماعة) وهي متناحرة متفرقة بكل الالوان، وكيف نأمل منها ان تقود وهي منقادة الى الاخر الغريب الذي يتملكنا كشيء لا مجهول؟..
وكيف نتوحد ثقافيا، والاقليات تنخر هويتنا المزعومة، ونتماسك جغرافيا والقوميات تتصارع طوبولوجيا وديموغرافيا؟. وكيف يتحقق العدل والجريمة مبررة عندنا بأسم القبيلة والقانون، وكيف تسود الحريات ومازالت السنتنا مكمومة وتخاف من الصمت الجميل الذي طال امده ؟.وكيف نتفق ونحن نتناحر وكيف نعيش معا ونحن لا نطيق العيش الا اقتتالا؟.. نحن بحاجة الى الوقوف امام ما يحصل لكي نفهم اسبابه ونزيل ركام ما تخلفه الاحلام الكاذبة ونحقق تنمية حقة تشمل الكل..
▪︎ المصادر :
- الزوواي بغورة :ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر،دار الطليع ة بيروت 2001
- محمد عابد الجابري:المسألة الثقافية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1999.
- فؤاد زكريا :خطاب الى العقل العرب، مكتبة مصر القاهرة.
- د.زكريا ابراهيم:نداءات الى الشباب العربي مقالات في النقد الاجتماعي،مكتبة مصر القاهرة 1973.
- محمد عابد الجابري:المثقفون في الحضارة العربية،مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ،ط2 2000.
- هشام شرابي:النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين،مركز دراسات الوحدة العربية بيروت،1999.
- محمد لطفي اليوسفي:فتنة المتخيل المؤسسة العربية للدراسات والنشربيروت 2002.
- ادوارد سعيد :الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق،ت محمد عناني،رؤية للنشر القاهرة2006
- ناصيف نصار:مطارحات للعقل الملتزم،دار الطليعة بيروت،1986
- معن زيادة :معالم على طريق تحديث الفكر العربي،عالم المعرفة الكويت،1987
- د.هشام غصيب :ثقافتنا في ضوء تبعيتنا دار التنوير العلمي عمان 1991
- محمد نور الدين افاية:المتخيل والتواصل
- هاشم صالح :الثقافة العربية في مواجهة الثقافة الغربية والتحديات،مجلة الوحدةا الرباط،
- حيدر ابراهيم علي:التيارات الاسلامية وقضية الدمقراطية،مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ط2 199
- رضوان جودت: الايديولوجيا المستعادة،مجلة الفكر العربي بيروت عدد1 1978.
- مطاع صفدي :ازمة الفكر العربي مع منهجياته، مجلة الفكرالعربي بيروت عدد1 1978.
- زكي نجيب محمود :تجديد الفكر العربي،دار الشروق بيروت.1973
- هاشم صالح:الاسلام والانغلاق اللاهوتي،دار الطليعة بيروت 2010.
- محمد جابر الانصاري:تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية،مركز دراسات الوحدة العربية بيروت1995..
- ناصيف نصار :طريق الاستقلال الفلسفي دار الطليعة بيروت ط2 1979
- كمال عبد اللطيف :سلامة موسى واشكالية النهضة،المركز الثقافي العربي المغرب 1982 ص129.
- غالي شكري :النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث،دار الطليعة بيروت ط2 1982