
بوادر إنتعاش... القطاع الزراعي يسجل مؤشرات تنامٍ غير مسبوق

مراصد
13/5/2025، 10:53:53 ص
يمتاز العراق بموارد طبيعية وافرة تؤهله ليكون بلدًا زراعيًا مزدهرًا. تبلغ المساحة الإجمالية للأراضي الزراعية في العراق نحو 80 مليون دونم، إلا أن الصالحة فعليًا للزراعة تقدَّر بـ32 مليون دونم، ولا يُستغل منها حاليًا سوى 18 مليون دونم فقط.
هذا يعني أنّ جزءًا كبيرًا من الأراضي الخصبة معطّل ويعكس فجوة كبيرة بين الإمكانات المتاحة والاستغلال الفعلي. إلى جانب الأراضي الخصبة، يمتلك العراق ثروة هائلة من أشجار النخيل؛ إذ يوجد في العراق حاليًا أكثر من 22 مليون نخلة، منها ما يزيد عن 20 مليون نخلة منتجة، ويحتل العراق المرتبة الأولى عالميًا من حيث عدد أشجار النخيل، تنتج سنويًا نحو 735 ألف طن من التمور، ما يضع البلاد في المركز الرابع عالميًا في إنتاج التمور. هذه الأرقام تؤكد المكانة التاريخية للعراق كموطن للزراعة، فقد كان يُعرف قديمًا بـ"أرض السّواد" لغناه بالتربة السوداء الخصبة.
وتجدر الإشارة إلى أنه في ثمانينيات القرن الماضي كان لدى العراق ما يقارب 32 مليون نخلة مثمرة؛ أما اليوم فيقدَّر العدد بما يفوق 20 مليون نخلة منتجة فقط. ورغم هذا التراجع فلا يزال العراق من أبرز دول العالم في إنتاج التمور. إضافة لذلك، يمر نهرا دجلة والفرات عبر أراضيه، وهو ما وفّر تقليديًا موارد مائية مهمة لأغراض الري. هذه المقومات الطبيعية (التربة والمياه والمناخ المتنوع) تشكّل قاعدة صلبة يمكن البناء عليها لتحقيق نهضة زراعية حقيقية.
▪︎ أسباب قاهرة
على الرغم من تلك المميزات، شهد القطاع الزراعي العراقي تراجعًا كبيرًا خلال العقود الماضية بسبب عدد من العوامل المركّبة. التغيرات المناخية والجفاف تأتي في مقدمة الأسباب؛ إذ انخفضت مساحة الأراضي المزروعة إلى النصف مؤخرًا نتيجة موجات الجفاف المتكررة. وفقًا لتصريحات رسمية، تراجعت مساحة الأراضي القابلة للزراعة من حوالي 80 مليون دونم تاريخيًا إلى نحو 14 مليون دونم فقط في الوقت الحاضر، في دلالة صادمة على حجم التصحر وتدهور الأراضي. ويعاني العراق من أزمة مياه حادة تفاقمت في السنوات الأخيرة؛ فقد انخفض إجمالي الإيرادات المائية التي تصل البلاد عبر الأنهار من نحو 93 مليار متر مكعب عام 2019 إلى 15 مليار متر مكعب فقط في 2023. هذا التراجع الضخم (أكثر من 80%) انعكس بشكل مباشر على القطاع الزراعي، حيث يعني نقص كل مليار متر مكعب من المياه خروج حوالي 260 ألف دونم من الخدمة الزراعية.
كذلك تقلّص نصيب الفرد السنوي من المياه من 2389 مترًا مكعبًا عام 2019 إلى حوالي 348 مترًا مكعبًا في 2023 (أي ما يعادل 14% فقط مما كان عليه قبل أربع سنوات). مما ينذر بخطر كبير على استدامة الزراعة والأمن المائي. وبالإضافة لعوامل المناخ والمياه، هناك سوء إدارة وغياب دعم ساهما في التراجع؛ فبحسب وزارة الزراعة، لم تتجاوز مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي 2.5-3 % مؤخرًا، وهي نسبة ضئيلة تعود إلى شحّ المياه. هذا التراجع الاقتصادي رافقه نزوح سكاني من الأرياف؛ إذ فقد كثير من المزارعين سُبل عيشهم مما أدى لهجرة نحو 12% من سكان العراق من مناطقهم بحثًا عن فرص بديلة. كما أدت عقود من الحروب والإهمال والصراعات إلى توسّع رقعة التصحر بشكل مقلق؛ حيث تشير إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء إلى أن الأراضي الصحراوية والصخرية تغطي نحو 41.89% من مساحة العراق حاليًا، بينما تشكّل الأراضي الزراعية المتروكة ما نسبته 22.21 % من المساحة – وهي أراضٍ كانت منتجة في السابق لكنها هجرت نتيجة شح المياه وتملّح التربة وضعف الدعم. هذه العوامل مجتمعة – مناخية وبيئية وإدارية – تفسّر لماذا تحوّل قطاع كان يُعتبر لعقود عماد اقتصاد العراق إلى فرصة مهدورة تحتاج إلى معالجة عاجلة.
▪︎ بوادر إنتعاش
لوحظ خلال العامين الماضيين تحسنا ملحوظا في الإنتاج الزراعي، عكس بوادر إنتعاش وفقا لمؤشرات تنامي غير مسبوق، بما يعكس إرادة حكومية جادة على إعادة إحياء القطاع الزراعي كونه يمثّل فرصة استراتيجية لتنويع الاقتصاد العراقي وتقليل اعتماده شبه الكلي على النفط. فعلى الرغم من تراجع مساهمة الزراعة إلى نحو 3% من الناتج المحلي، إلا أن المؤشرات الحديثة تظهر أن هذا القطاع قادر على النهوض سريعًا متى ما توافر الدعم والموارد اللازمة. فعلى سبيل المثال، أدت الإجراءات الحكومية الأخيرة والتحسن النسبي في الامدادات المائية إلى قفزة ملحوظة في إنتاج المحاصيل الاستراتيجية؛ حيث بلغ إنتاج العراق من محصول الحنطة (القمح) في موسم 2023 حوالي 4.248 مليون طن، بزيادة تفوق 53% مقارنة بعام 2022 الذي شهد إنتاج 2.75 مليون طن فقط. هذا الارتفاع الكبير تحقق بفضل دعم المزارعين وتوسيع المساحات المزروعة وتحسّن الظروف المائية نسبيًا، مما مكّن البلاد من تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح ذلك العام بل وتجاوزه بفائض قدره 220 ألف طن.
إن تعافي إنتاج القمح بهذا الشكل السريع يبيّن أن الزراعة يمكن أن تكون قاطرة إنقاذ للاقتصاد متى ما توفرت الإرادة السياسية والدعم الفني والمالي الملائم. وإلى جانب ضمان الأمن الغذائي، يوفّر تطوير الزراعة فرص عمل واسعة تساهم في معالجة البطالة المرتفعة في المناطق الريفية. فعلى سبيل المثال، أحد المشاريع الزراعية الكبرى الحديثة (مدينة كربلاء الزراعية) وفّر وحده نحو 8 آلاف فرصة عمل لمختلف الاختصاصات، وساهم في خفض معدل البطالة في ثلاث محافظات مجاورة بحوالي 4%. هذا نموذج لكيف يمكن للاستثمار الزراعي أن ينعش الاقتصاد المحلي ويولّد دخولاً لآلاف الأسر. كذلك فإن الزراعة هي "نفط دائم" لا ينضب، ويمكنها أن توفر موارد مستدامة لخزينة الدولة عبر زيادة الصادرات الزراعية وتحقيق الاكتفاء الذاتي، الأمر الذي يقلل استنزاف العملة الصعبة على الاستيراد. من هنا، فإن النهوض بالقطاع الزراعي ليس مجرد ترف اقتصادي، بل هو ضرورة وحل استراتيجي لتحقيق التنمية المتوازنة وتوفير سبل العيش الكريم لملايين العراقيين، خاصة في الأرياف التي عانت من الإهمال طويلًا.
▪︎ الأمن الغذائي والسيادة الاقتصادية
يعدّ تعزيز الأمن الغذائي واستعادة السيادة الاقتصادية من أبرز الدوافع للاهتمام بالزراعة في العراق اليوم. فقد أدى تراجع الإنتاج المحلي خلال السنوات الماضية إلى اعتماد البلاد بشكل كبير على الاستيراد لتلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية، مما شكّل عبئًا ماليًا وخطرًا استراتيجيًا. على سبيل المثال، اضطر العراق لاستيراد كميات ضخمة من القمح لتعويض النقص المحلي؛ حيث استورد ما يقارب 996 ألف طن من حنطة القمح من أستراليا خلال عام واحد فقط بقيمة تجاوزت 323 مليون دولار. هذه الواردات الضخمة كانت ضرورية خاصة بعد تراجع إنتاج 2022 بفعل الجفاف إلى حوالي 2.7 مليون طن فقط، أي أقل بكثير من حجم الاستهلاك السنوي المقدر بحوالي 4.2 مليون طن. إلا أن التحسن الكبير في محصول 2023 على سبيل المثال غيّر المعادلة؛ حيث بلغ الإنتاج المحلي مستوى الاكتفاء الذاتي وغطّى حاجة البلد كاملة، بل أعلنت الحكومة أنها تمتلك مخزونات كافية تغني عن أي استيراد إضافي في الوقت الحالي.
وفي تطور إيجابي غير مسبوق أيضا منذ سنوات، بدأ العراق بتصدير الفائض من القمح المحلي إلى الخارج بعد تلك المواسم الناجحة – وهو تطور يعزز السيادة الغذائية ويثبت قدرة البلاد على التحول من الاستيراد إلى التصدير عند توفر الدعم والظروف المناسبة. جدير بالذكر أن المعدل السنوي المعتاد لواردات العراق من القمح خلال السنوات الماضية كان يتراوح بين 2 إلى 3 ملايين طن، لذا فإن تخفيض هذا الرقم واستبداله بإنتاج محلي يعني احتفاظ العراق بمبالغ ضخمة داخل اقتصاده بدلًا من إنفاقها على الأسواق العالمية. وإلى جانب الحبوب، يبذل العراق جهودًا لتحقيق الاكتفاء الذاتي في منتجات غذائية أخرى؛ فقد أعلنت وزارة الزراعة حظر استيراد 21 مادة غذائية متوفرة محليًا نهاية 2021 في إطار دعم المنتج الوطني، وشهدت البلاد في الأعوام الأخيرة تحقيق الاكتفاء في محاصيل وخضروات عديدة. كما يواصل العراق تعزيز موقعه في تصدير المنتجات الزراعية التقليدية ذات الميزة النسبية، وعلى رأسها التمور. فبإلاضافةً لتلبية الطلب المحلي، صدّر العراق نحو 650 ألف طن من تمور الزهدي إلى الأسواق العالمية خلال عام 2022 وفق إحصاء رسمي، مما وفر عائدات مالية ودعم ميزان المدفوعات. إن الوصول إلى مرحلة يلبّي فيها الإنتاج المحلي معظم احتياجات السكان ويولّد فائضًا للتصدير يعني تعزيز السيادة الاقتصادية للعراق وتقليل ارتهانه لتقلبات الأسواق الدولية. ومن هذا المنطلق، يشكّل الاستثمار في الزراعة وتأمين مستلزماتها الأساسية (مياه، بذور محسّنة، تقنيات ري حديثة) حجر الزاوية في تحقيق أمن غذائي مستدام للعراق.
▪︎ مشاريع كبرى
في مواجهة التحديات السابقة، أطلقت الحكومة العراقية مؤخرًا حزمة من المشاريع الزراعية الطموحة وبرامج الدعم بهدف إحياء القطاع وتحويله إلى رافعة للتنمية الاقتصادية. من أبرز تلك التوجهات استصلاح المناطق الصحراوية واستثمارها زراعيًا. فقد أكد وزير الموارد المائية المضي قدمًا في مشروع لاستغلال الصحراء عبر إنشاء واحات زراعية تعتمد على المياه الجوفية. وضمن هذا التوجّه، يتم سنويًا زراعة أكثر من 3 ملايين دونم في المناطق الصحراوية بمحصولي الحنطة والشعير بالاعتماد على تقنيات الري المحوري الحديثة ومياه الآبار وتدرس الوزارة أيضًا إنشاء سلسة واحات تمتد من سنجار في الشمال الغربي إلى البادية الجنوبية، مع بناء سدود لحصر مياه الأمطار بهدف ضمان استدامة هذه الواحات الصحراوية وتأمين مياهها. هذه الخطط من شأنها تحويل مساحات شاسعة مهملة إلى أراضٍ منتجة، وتوسيع الرقعة الزراعية رغم تحديات شحّ المياه. بالتوازي مع ذلك، اتخذت الحكومة خطوات عاجلة لدعم المزارعين وزيادة الإنتاج في الأراضي التقليدية. ففي مطلع 2025 صدر قرار عن مجلس الوزراء بتعديل الخطة الزراعية للموسم الحالي لمحصول الحنطة، بحيث تم شمول الأراضي المزروعة خارج الخطة الرسمية بالدعم الحكومي أسوةً بالأراضي المقررة ضمن الخطة. بموجب ذلك، يحق لأي مزارع بادر بزراعة القمح خارج الخطة الرسمية الحصول على المستلزمات وتسهيلات وتسويق إنتاجه تمامًا كغيره، وقد تم بالفعل تخصيص مبالغ لشراء محاصيل الحنطة المسوَّقة من هذه الأراضي الإضافية.
هذا القرار جاء استجابة لمطالبات الفلاحين لا سيما في محافظة واسط وغيرها، وهو خطوة مهمة لزيادة مساحة الإنتاج المحلي وتشجيع المزارعين على الاستفادة القصوى من كل الأراضي المتاحة. على صعيد آخر، يجري تنفيذ مشاريع زراعية استثمارية كبرى بالشراكة مع القطاع الخاص تهدف لتحقيق طفرات نوعية في الإنتاج. مدينة كربلاء الزراعية تُعد نموذجًا رائدًا في هذا المجال بوصفها أكبر مشروع زراعي وحيواني في العراق والشرق الأوسط. هذا المشروع الضخم يؤمّن حوالي 25% من احتياجات البلاد من بيض المائدة عبر إنتاج حوالي 300 مليون بيضة سنويًا، ويضم أيضًا مجزرة حديثة متعددة الخطوط الإنتاجية. وأسهم تشغيل هذا المشروع في تخفيض معدل البطالة بنحو 4% في ثلاث محافظات عبر توفير 8 آلاف وظيفة جديدة لمختلف الاختصاصات، مما يبرز الأثر الاقتصادي والاجتماعي المباشر لمثل هذه المشاريع. كذلك تبنت وزارة الزراعة خططًا لدعم البستنة والتشجير لزيادة الغطاء النباتي والإنتاج الثمري؛ فقد شملت خطة البستنة لعام 2023 التوسع في زراعة أشجار الزيتون والنخيل، إلى جانب حملات لتشجير مؤسسات الدولة ودعم المزارعين لزيادة إنتاج محاصيل الخضروات. ولا ننسى مبادرات إعادة تأهيل البنى التحتية للري وتنفيذ مشاريع الإرواء الحديثة بالتعاون مع منظمات دولية بينها الفاو والبنك الدولي، لتحسين كفاءة استخدام المياه. جميع هذه الجهود تعكس إرادة جادة لتحويل الزراعة في العراق إلى بوابة للنهوض الاقتصادي. وإذا استمر هذا الزخم في تنفيذ المشاريع ومواجهة العقبات بالعلم والتخطيط السليم، فإن القطاع الزراعي العراقي مقبل على نهضة حقيقية قد تعيده إلى مكانته المستحقة كما يساهم في دعم الاقتصاد والغذاء المتاح لأبنائه، ويحوّل وصف "الفرصة المهدورة" إلى قصة نجاح ونهضة وطنية. إنّ الزراعة ليست قطاعًا ثانويًا يمكن الاستغناء عنه، إنّما هي شريان من شرايين السّيادة الاقتصادية والاجتماعية للعراق. لذلك فأن كل المؤشرات تؤكد عزم الحكومة على تأسيس إقتصاد مستقر ومستدام، عبر النهوض بالقطاع الزراعي، كونه يدخل ضمن أولوياتها و برنامجها المعلن، في إطار خطةٍ وطنيةٍ شاملة.