الساعة الان

06:14 م

logo
فسلفة دولة.... ما بين العقل العراقي ونموذج فوكوياما!!

فسلفة دولة.... ما بين العقل العراقي ونموذج فوكوياما!!

فسلفة دولة.... ما بين العقل العراقي ونموذج فوكوياما!!

مازن صاحب الشمري

17‏/5‏/2025، 10:39:47 ص

تأسست الدول العربية، ومعظم دول الشرق الأوسط، وفقًا لتطبيقات "المنتصرين" في الحربين العالميتين الأولى والثانية، في إطار عصبة الأمم ثم ميثاق الأمم المتحدة. وقد حمل كلا النظامين إشكاليات تتعلق بالعقل العربي الإسلامي، وثقافة الفكر القومي، التي انعكست بوضوح في الدولة العراقية الحديثة، حيث طغت سلطة الفكر العربي على حساب الفكر القومي الكردي أو التركماني.

 

أما الفكر الإسلامي، فقد ورث عبر مفهومي "البيعة" و"التقليد" تاريخًا حافلًا بالخلافات المستمرة منذ أكثر من 1400 عام حول أحقية الحُكم. ولم تتبلور، لا في العهود السابقة، ولا بعد التغيير في عام 2003، ثقافة وطنية تُجسِّد "العراق الواحد وطن الجميع"، الأمر الذي يستدعي وقفة نقدية لتحليل بنية العقل العراقي، وفهم الأسباب التي حولت العراق من دولة ذات حكم شمولي إلى دولة تُصنَّف ضمن الدول الفاشلة، وفق معايير البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وهي معايير تنبني على مبادئ الحكم الرشيد، والاستثمار في العقول البشرية، واقتصاد المعرفة.
وبينما واصل العراقيون دفع (صخرة سيزيف) في إطار نظام المحاصصة، صعدوا بها نحو استحقاق دستور عام 2005، الذي حدد مصادر التشريع في ثلاثية واضحة: ثوابت الدين الإسلامي، مبادئ الديمقراطية، والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.
يتفق الفقه السياسي على أن الأحزاب تمثل الأداة الديمقراطية التي تعبّر عن "العقل الجمعي" للسكان، حيث يتم من خلالها رسم السياسات العامة عبر صناديق الاقتراع. وقد نشأت هذه الأفكار عقب معاهدة ويستفاليا التي نظمت العلاقات بين الممالك الأوروبية، وتطورت لاحقًا إلى اتفاقات ترسيم الحدود والمصالح الاقتصادية، التي كانت بدورها الشرارة لاندلاع الحربين العالميتين. اتفاق سايكس بيكو أنتج دول الشرق الأوسط، ومنها العراق، ضمن حدود سيادية جامعة لتنوع اجتماعي وثقافي وقومي وطائفي. ورغم ذلك، ظلت الحدود السيادية للعراق تُعبّر عن سيادة الوطن نظريًا، فيما تنوعت أجندات القوى السياسية الحزبية المسيطرة على "العقل العراقي" بين :
▪︎ الأحزاب الكردية التي تسعى للاستقلال والانفصال،
▪︎ أحزاب الإسلام السياسي التي تستند إلى مفاهيم "البيعة" و"التقليد"، ترفض فكرة الدولة الوطنية،
▪︎ أحزاب ليبرالية لم تنجح حتى الآن في توحيد صفوفها أو بناء مشروع وطني شامل. 
السؤال كيف يمكن توظيف نموذج اعادة بناء الدولة في عراق اليوم؟ يتجلى أحدث عرض للدكتور فرانسيس لفوكوياما حول "الحوكمة الوطنية الرشيدة" وبشكل رئيس في كتاب "بناء الدولة : الحوكمة والنظام العالمي في القرن الحادي والعشرين"، ويؤكد فيه أن بناء الدولة لا يعني فقط وجود دستور أو انتخابات، بل يتطلب توازنًا بين ثلاث ركائز رئيسية :
أولًا، "الأمة الكفوءة": تتركز السلطة في بنيان الدولة، حيث يُمثل الجيش والشرطة والمؤسسات المحتكرة للعنف والسلاح، ضمانًا للسلطة. في ظل تمتع المنظمات الحكومية بتسلسل هرمي واضح نسبيًا وأهداف وظيفية واضحة، يؤدي المجتمع السائد والمعتقدات الدينية واجباتها، وتتمتع الوظائف الاجتماعية بمكانة جيدة. 
ثانيًا، "سيادة القانون القوية": وفقًا للإجماع العام والتقاليد والمعايير التاريخية السائدة في المجتمع، تُصاغ منظومة قانونية تعمل فيها الدولة في إطار النظام القانوني، ويكون القانون ملزمًا للجميع، بمن فيهم أقوى الأطراف السياسية.
ثالثًا، "الحكومة المسؤولة": تعمل الحكومة بكامل طاقتها وتحكم البلاد وفقًا للإجراءات القانونية. ما تهتم به الحكومة ليس فقط المصالح الوطنية، بل أيضًا مصالح المجتمع ككل، وخاصةً مصالح جميع مواطنيها. يجب على الحكومة الحفاظ على كفاءة عالية في العمل، والاستجابة في الوقت المناسب، والتعامل بشكل سليم مع مختلف مطالب الشعب. كما حذر مما يسميه "الثقب الأسود في الإدارة العامة"، وهو وضع يتسم بالغموض في الأهداف الحكومية، ضعف الرقابة، والخلل في توزيع الصلاحيات. 
ويركز أيضًا على علاقة "نطاق عمل الدولة" (Scope) بـ"قدرتها على التنفيذ" (Capacity). فالدول الضعيفة، وفقًا له، غالبًا ما تتبنى سياسات طموحة لكنها تفتقر إلى القدرة الفعلية على تنفيذها..
تتميز نظرية بناء الدولة التي اقترحها فوكوياما بالمزايا التالية :
أولاً، الدولة الحديثة شرطٌ أساسيٌّ للتنمية الاقتصادية: فالآثار السلبية لانهيار الحكومة والحروب الأهلية والصراعات على النمو الاقتصادي واضحة، كما أن للقدرة القوية للإدارة العامة علاقةً إيجابيةً بالنمو الاقتصادي. 
ثانياً، بناء نظام سياسي ديمقراطي لا ينفصل عن بناء الدولة: يكتسب بناء الحرية والديمقراطية أهميةً بالغةً. وفي مسيرة الحضارة الإنسانية، يجب استبدال تلك الشعارات البغيضة بحلولٍ بناءةٍ قائمةٍ على الانفتاح والتعاون وتحقيق نتائجَ مربحةٍ للجميع. 
يمكن ملاحظة ان مقاربة مظاهر ضعف الدولة العراقية وفق نموذج فوكوياما يتجسد في تضارب السياسات الحكومية والحزبية، يرادفها غياب جهاز إداري مهني، واعتماد التعيين على الولاءات، مقابل ضعف تنفيذ القانون مما يؤدي الى تراجع ثقة المواطن بمؤسسات الدولة بسبب هيمنة الميليشيات على القرار الأمني في مناطق واسعة. وبذلك، تُصنف الدولة العراقية بوضوح ضمن "الدول الضعيفة" التي تعاني من نطاق واسع للسلطة التنفيذية، لكن دون قدرة حقيقية على الفعل بما يتطلب اعادة نظر منتقدة للعقل العراقي. وحينما نحاول تحليل كلما تقدم بمنهجية يمكن ملاحظة الاتي :
 اولا، نقاط القوة: وجود دستور دائم يمثل خطوة نحو بناء مؤسسات دولة حديثة، ورغم التحديات، فإن إجراء الانتخابات يعكس شكلًا من أشكال الديمقراطية، بما يتطلب إشرافا دوليا على عملية إعادة البناء مما قد يعزز الدعم السياسي والاقتصادي الدولي.
ثانيا، نقاط الضعف: بعد ان أدى تقاسم المناصب على أسس طائفية وحزبية بدل الكفاءة، تفشى الفساد الإداري والمالي وعطّل الدولة عن أداء دورها وبالتالي عجز الجهاز الحكومي عن تلبية حاجات المواطنين وتقديم الخدمات كون التعيينات على أساس الولاء وليس الكفاءة، فضلا عن غياب تطبيق القانون مما أدى إلى انهيار الثقة بين المواطن والدولة.
ثالثا، الفرص : حتمية وجود إمكانية لإعادة هيكلة الدولة، ويمكن الاستفادة من التجارب السابقة لتصحيح المسار السياسي والإداري، ولا يزال هناك مجال للاستفادة من الدعم الدولي لإعادة الإعمار والإصلاح، يضاف الى ذلك وجود طاقات شبابية يمكن أن تكون عنصر تغيير في المشهد السياسي والاجتماعي والعمل على الوعي الشعبي المتزايد الذي يدفع نحو المطالبة بالإصلاح والمساءلة.
رابعا، التهديدات: ربما اهمها عدم حصر السلاح بيد الدولة وعدم تنفيذ مبدأ “من اين لك هذا" على كل المرشحين للانتخابات والدرجات الوظيفية الخاصة، بما يؤدي الى ظهور مجلس نواب بيد بيضاء غير ملوثة بمفاسد المحاصصة يمكن ان يباشر العمل في الحد من تضارب السياسات الحكومية والحزبية التي تؤدي إلى شلل إداري وصراع داخلي.
كل ذلك، يؤكد ان الدولة العراقية بعد 2003 ضمن حالة "دولة ضعيفة" بحسب تصنيف فوكوياما "تمتلك السلطة ولكن تفتقر إلى القدرة الفعلية على الحكم والتطبيق، بسبب الفساد، الطائفية، وتراجع المؤسسات الرسمية أمام نفوذ القوى غير الرسمية".
ويبقى السؤال، هل من تحشيد ومناصرة من اجل نهضة فكرية تنقد العقل العراقي للخروج من حصار  "الدولة الضعيفة" الى فضاءات "الدولة القوية"، من يدري لعل وعسى!!

جميع الحقوق محفوظة | © 2024 مراصد

برمجة وتطويرID8 Media