
الإيكوميلانخوليا والاستاطيقا الإيكولوجية

د. سعيد عبد الهادي المرهج
23/5/2025، 1:03:07 م
"من المؤلم تمامًا رؤية جراحات البيئة كما هو الحال عند مشاهدة عملية شد الوجه. إن حساسيات الوجه البشري وتأثير أصغر التغييرات على التعبير تجعل العملية غير مريحة، على الرغم من أننا قد نستمتع بالنتيجة"
يريو سيبنما
▪︎ الاستاطيقا في حقبة الانثروبوسين
ولدت الاستاطيقا مبحثا مستقلا في هذا العصر (الإنثروبوسين)، فثمة تساوق في الولادة بين تعاظم تأثير الإنسان في محيطه البيئي، هذا التعاظم الذي دفع الإنسان ثمنه لا البيئة فحسب، فحاول أن يجد ملاذا لروحه الكئيبة فلم يجده إلا في الطبيعة نفسها، الطبيعة التي خنقها وخنق نفسه معها، وبين الاستاطيقا بوصفها مسعىً للإمساك بلحظة التكشّف الجمالي. فلحظة هدمنا هي ذاتها لحظة وعينا بمآلات الهدم، استاطيقا القرن الثامن عشر ولدت في الطبيعة، ولها. أما إذا كان الفن ديناً، والدين فناً عبر تاريخنا البشري الطويل، فإن سؤال الفن برز مع الأغريق (أفلاطون وأرسطو) وكانت المحاكاة مسعى لتوحيد المتعالي بالواقعي ودمجهما في الأثر الفني، وكأن الفن ثلثه إلهي والآخر طبيعي (بيئي) والثلث المتبقي بشرى فقدرته (الفن) على التحول والتسامي تقودنا إلى حالة من الإدراك المعزز الذي قد يكون عجيبًا وخطيرًا، وفي بعض الأحيان ساحقًا. وإذا كان الإلهي يشير إلى كل ما هو متعالٍ، روحي، علوي، ومن ثمّ فهو الإنسان بمعية خيالاته، فإن الطبيعة هي الإنسان بمعية المادة، بحسب سيرج موسكوفيتشي- Serge Moscovici (1925- 2014).
وبين عالم نخلقه وآخر يخلقنا لن نجد مستقرا إلا في الفن، فيه نعيد ترميم أنفسنا والفضاء المحيط بنا، فمنذ أو لوحة (خربشة) خُطت على جدران الكهوف ونحن نسعى لامتلاك الطبيعة، وحين ظننا بأننا امتلكناها! بدأنا ندرك أنّ الامتلاك أضاعها وأضاعنا، فكان الحوار معها مفتاحنا الأمثل، منذ القرن الثامن عشر، ونحن في شدٍّ وجذب بين امتلاكٍ رأسمالي، وحوارٍ استاطيقي. إذا كنّا نسلم أننا نعيش عصر الأنثروبوسين، عصرا نحن من صنعناه، فعلينا أن نُعيد النظر في طبيعة علاقتنا بمحيطنا الحيوي، والجزء الأبرز في هذا ليس الجانب العلمي الدعوي بتوعويته، بل المنعطف الجمالي، لكون المنجز الإبداعي بأشكاله المختلفة الأكثر قدرة على إعادة تشكيل وعي الإنسان بطبيعته، فما حطمناه، وصنعنا جماليات لتمجيد حطامه علينا اليوم أن نقرّ بالتحطيم ونرسم عالما بديلا، ولن يكون إلا حين نعزز حضور الجماليات البيئية؛ جماليات تعيش المطر نشوة، كما الأرض، والرياح أرواحنا معانقة سماءً من ضوء لا تحجبه غيوم المصانع، بل غيوم بحار تمخر حيواناتها عجاجها مطمئنة، نعيش الحجر والطين تاريخا شخصيا لنا، نحن أبناء هذه الأرض، ألم يولد الفن محاكاة للطبيعة، أو خلقا متصلا بها منبثقا عنها (أفلاطون وأرسطو)! لم ينفصل الفن عن الطبيعة إن على مستوى التنظير الجمالي أو الفعل الجمالي، وقد تعمّق هذا الأمر مع القرن الثامن عشر، ومع ولادة الفلسفة الجمالية بشكلها الحديث مع باومكارتن (1714- 1762) الذي عدّها فن الفكر الجمالي، واكتسبت نضجها مع إيمانويل كانط (1724- 1804) الذي ذهب إلى أنّ "أي حكم على الجمال يمتزج فيه أقلّ مصلحة هو حكم غير نزهيه، ولا يمكن أن يكون حكم ذوق محض.
فللقيام بدور القاضي في أمور الذوق، يجب عدم الاهتمام إطلاقا بوجود الشيء، بل على العكس يجب أن يكون المرء غير مكترث لما يتعلق به"، وعدم الاهتمام، أو (عدم التحيز - disinterestedness) تعبير عن التجربة الجمالية الخالصة التي تقود نحو (إجماع جمالي) أو توافق عام حول ما هو جميل. ويذهب كانط إلى أن "الجميل والسامي يلذان بنفسيهما"، وفي حديثه عن السامي رأى بأنه لذّة سلبية، متولدة عن الصفات الكبيرة والعظيمة في الطبيعة. أفكار كانط تلك كانت الموجّه الرئيس للحركة الرومانسية بجمالياتها المنخرطة كليا في البيئة، والقائلة بـ(عبادة الطبيعة). على وفق ما سبق يمكننا القول بأنه (كانط) الممهد لنشوء علم الجمال البيئي بشكله الأولي، من هنا كانت "المناقشات الفلسفية المهمة حول جمالية الطبيعة ظهرت فقط في القرن الثامن عشر". وبين كانط وفلاسفة الجمال البيئي، يقف (جون دوي 1859- 1952) الذي فتح بابا واسعا نحو البيئة، في كتابه (Art as Experience (1934) بتنظيره للخبرة عموما، والخبرة في الفن على وجه الخصوص، إذ ذهب إلى "أنّ الخبرة مسألة تفاعل بين الكائن الحي وبيئته، وإن البيئة إنسانية كما هي مادية، بمعنى أنها تشتمل على عناصر التقليد والأنظمة الاجتماعية، كما تشتمل على مواد البيئة المحلية"، وعلى ضوئها بنى مفهومه عن الخبرة الجمالية، وهو مفهوم يتصل اتصالا شديدا بنشأة الجماليات البيئية، فهو رأى أنّ "السمة الوحيدة المميزة للخبرة الجمالية إنما هي على وجه الدقّة انعدام كل تفرقة من هذا القبيل بين الذات والموضوع في نطاقها، مادامت هذه الخبرة لا تكون جمالية إلا بقدر ما يتآزر فيها الجهاز العضوي مع البيئة، بحيث تتكون منها خبرة يندمج فيها الاثنان تماما، حتى ليختفي كل واحد منهما بوصفه قائما على حدة"، وهو أمر يؤكده في أكثر من مكان في كتابه هذا: "حين تكون الفلسفة واسعة الأفق حرة الفكر، قائمة على دعامة من فهم العلاقة المستمرة للذات بالعالم في وسط تغيرات مضامينها الواقعية، فهناك لا بدّ لمثل هذه الفلسفة من أن تعمل على توسيع رقعة المتعة الفنية ، وجعلها أكثر تعاطفا"، هذا التأكيد على العلاقة بين ذات الإنسان ومحيطه هو ما سيرسّخه (أرلوند بيرلنت1932-) على أساس من مراجعة ونقدٍ لمفهوم عدم التحيّز الكانطي، إذ جاء طرحه لمفهومه (التفاعل الجمالي أو الانخراط الجمالي aesthetic engagement) في كتابه (جماليات البيئة- Environmental Aesthetics- ١٩٩٢) ردا على عدم التحيّز (أو عدم الاهتمام أو اللامبالاة) الكانطية، فنحن مع بيرلنت أمام ما يمكن عدّه جمالا سياقيا، فثمة تفاعل متّصل يصل حدّ التداخل بين المدرِك والموضوع.
فالتجربة الجمالية وليدة هذا التفاعل بين الموضوع، والمتلقي، والمبدع، وما أبدعه في سياق جمالي. وهي تجربة مباشرة وحميمة. من هنا يمكن إدراك الجمال البيئي عند (بيرلنت) بوصفه تجربة انخراط وتفاعل حسي وعاطفي كلي، وتواصل عميق مع الطبيعة. فالطبيعة ليست مجرد شيء يستدعي النظر، بل تجربة كلية يعيشها الإنسان بإدراكه وحسه. ومن ثمّ لا يمكن فهم الجمال إلا في سياق طبيعي وعلاقة ديناميكية بين الإنسان والبيئة. وهو ما عبّر عنه بالتفاعل الجمالي. وفيه لم تعد البيئية مجرد منظر جمالي يجب الحفاظ عليه. وليس بعيدا عمّا سبق تقف مساهمة الكندي (آلين كارلسون 1943- 2025)، الذي شارك بيرلنت في إصدار كتاب (جماليات البيئات البشرية) في العام 2007. إذ جاء عمله الممتد لأكثر من ربع قرن في هذا المجال، لمنح الصورة السابقة للجماليات بعداً أكبر بتأكيده القيمة الجمالية غير المرتبطة بالفن (الجماليات الإيجابية positive aesthetics)، في معظم أشكالها: "البيئة الطبيعية، طالما أنها غير متأثرة بالبشر، تمتاز بشكل أساسي بخصائص جمالية إيجابية؛ فهي أنيقة، رقيقة، مكثفة، موحدة، مرتبة، وليست مملة، أو باهتة، أو فاترة، أو غير متماسكة، أو فوضوية. باختصار، فإن كل طبيعة عذراء تعتبر بشكل أساسي جيدة من الناحية الجمالية. التقدير الجمالي المناسب أو الصحيح للعالم الطبيعي هو بشكل أساسي إيجابي، ولا مكان للأحكام الجمالية السلبية". ويوضح ما سبق بقوله: "كل الكائنات الطبيعية، لكونها تحمل قيمة جمالية إيجابية، تستحق التقدير بشكل متساوٍ، وليست جميعهاً متساوية فعليًا في القيمة الجمالية الإيجابية". وهذه النظرة الجمالية الإيجابية يستكمل بناءها في مؤلفاته اللاحقة. إذ يربط بين القيم الجمالية والقيم الأخلاقية. وإلى جانب الجماليات الإيجابية يولّد مصطلح (القيمة المعرفية- Cognitive Valuation) ويريد بها أنّ للمعايير الجمالية دورا أساساً في تشكيل فهمنا وإدراكنا لواقعنا، مؤكداً أنّ القيم الجمالية ليست مجرد أذواق شخصية، بل تتعلق بكيفية إدراك البشر للبيئة، وكيف يمكن أن تؤثر في صناعة القرار والعاطفة عند الإنسان. والتقييم عنده أو التقدير يركز على مفهوم يرتبط بشكل أكثر طبيعية وضرورة بتجارب المرء اليومية من الفن والطبيعة. وفي سياق متصل تأتي إسهامات كيرنوت بوهمه (1937- 2022) في الجماليات البيئية، فهو، برؤيته الظاهراتية، قدّم لنا مصطلح (Atmospheric) ليجعله الخيط الجامع بين البيئة والعمارة والمحيط الإنساني:
"إن علم الجمال الجديد الناتج عن ذلك (تطوير نظرية جمالية للطبيعة) يهتم بالعلاقة بين الصفات البيئية والحالات الإنسانية... وهذا الذي ترتبط من خلاله الصفات البيئية والحالات الإنسانية، هو الجو (Atmospheric)". ويوضح الأمر بحسب الأدوار قائلا: بالنسبة للمنتجين، فإن علم الجمال الجديد هو نظرية عامة للعمل الجمالي - يُفهم على أنه إنتاج الأجواء. أما بالنسبة للمتلقين، فهو نظرية كاملة للإدراك، حيث يُفهم الإدراك على أنه تجربة حضور البشر والأشياء والبيئات" (Ibid: 16) وهو يشمل به، ليس البيئة فحسب، بل المحيط الإنساني بكل تفاصيله، إذ يقول: "موضوع علم الجمال الآن هو النطاق الكامل للعمل الجمالي، والذي يُعرَّف عمومًا بأنه إنتاج الأجواء ويمتد بهذا المعنى من مستحضرات التجميل إلى الإعلان، والهندسة المعمارية الداخلية، وتصميم المسرح، وإلى الفن بمعنى أضيق. ومن ثمّ فجماليات الجو (Atmospheric Aesthetics) خاصية موضوعية، فضلا عن ذاتيتها، فالأجواء نتيجة للتفاعل بين الذات والموضوع، فهي متولدة عن تشاركنا مع البيئة المحيطة، وتتشكل من مؤثرات حسيّة، والخصائص المادية- المكانية للمكان، وما تبعثه فينا حالات شعورية- مزاجية والعلاقات الاجتماعية المتشكّلة في المكان نفسه، ساعيا من خلال ذلك إلى ردم الثنائية التقليدية (ذات موضوع) بهذا التفاعل بينهما، وهذا المصطلح سبق للفيلسوف الألماني هيرمان شميتز (1928- 2021) أن استعمله في فلسفته للجسد، إذ ذهب إلى أنّ تأثير (الجو)، وليد إدراك أنّ الجسد يشعر بالأجواء العاطفية قبل المعرفة التجريبية، والإنسان ما إن يدخل جوا جديدا حتى يبدأ باختباره لإيجاد مشاركة عاطفية معه. ووفقًا لشميتز، لا يُواجه الفضاء أصلاً كفضاء قابل للقياس أو مكاني كما هو مفترض في الفيزياء والجغرافيا، بل يُعدُّ كعالم (غير مسطّح)، يظهر لكل منا في تجربة جسدية غير مشوهة، على سبيل المثال، في سماع أصوات ضخمة أو في الإحساس بالأجواء. تشمل أمثلة الفضاء غير السطحي الصوت الضخم الذي يملأ الغرفة جراء جرس كنيسة عملاق، وكذلك الصرخة الحادة والمزعجة لطائر جارح. كما أن الطقس يقدم أيضًا فضاءات غير مسطّحة تُحس على الفور في استجابتنا الجسدية للأجواء المحيطة بنا. الأهم من ذلك، أن الجسم المُحسّ هو نفسه فضاء غير مسطّح، أو بالأحرى مجموعة من العديد من هذه الفضاءات: (جزر) جسدية مثل منطقة البطن أو باطن القدمين تُحس كفضاءات diffuse لكنها ما زالت قابلة للتحديد بشكل منفصل". وهي المداخل ذاتها التي انطلق منها (رولاند هيبورن) في تأملاته الجمالية، فهو لا يختلف كثيرا عما سبق حين يتحدث عن العلاقة بيننا والطبيعة المعيشة: "تنتمي الأجسام الطبيعية إلى بيئة لا تحيط بها فقط وتشاركها، بل تحيط أيضًا بالمقدّر وتشاركه. ومن ثمّ، فإن الإزالة الجسدية أو التأملية للأجسام الطبيعية أو لأنفسنا من بيئاتها يؤدى إلى تقدير غير مناسب. علاوة على ذلك، يُعتقد أن مشاهدة الطبيعة كما قد نشاهد لوحة مناظر طبيعية، أي كمنظر ثابت نراه من مسافة محددة مسبقًا، أمر غير مناسب، لأنه يقلل من الطبيعة بشكل مضلل إلى سلسلة من المشاهد ثنائية الأبعاد". وعلى وفق هذا ينقد وجهات النظر الجمالية السابقة التي يوزعها بين ثلاثة اتجاهات: اللاهوتي القائل بجمال الطبيعة لأنه نتاج عقل مصمم (الله). والثاني القائم على المشاركة، وهو الموقف السائد في الربع الأخير من القرن العشرين، أما الموقف الثالث فيسعى إلى ربط التقدير بالفهم؛ فالطبيعة ليست فناً، ومثل هذا التقدير غير ذي صلة بتقدير الطبيعة. بالنسبة للطبيعة، يُقال إن المعرفة ذات الصلة هي تلك التي توفر فهمنا للعالم الطبيعي، أي المعرفة التي تقدمها العلوم الطبيعية. يذهب روجر سكروتن (1944- 2020) إلى أنّ "المشاهد الطبيعية... بعيدة للغاية عن الأعمال الفنية- فجاذبيتها لا ترجع إلى التناسق والوحدة والشكل، ولكن لانفتاحها وجلالها واتساعها كما لو كانت عالما وحدها نوجد نحن فيه وليس هي".
▪︎ الواقع الفائق (hyperreality) والإيكوميلانكوليا
من يتأمل في كل ما سبق يمكن بقليل من الحدسِ أن يرى (السعادة) تطل برأسها من بين الكلام من دون أن ينطق بها فمٌ. وكأن الطبيعة (الخلّابة) هي الطبيعة القادرة على إسعادنا. ألم تكن لوحات كاسبر ديفيد فريدريش (1774-1840) أو فان كوخ (1853- 1890) وأدوارد مونك (1863- 1940) وبعض من أبرز إبداعات بول غوغان (1848- 1903) وأندرو وايث (1917- 2009)، والمرحلة الزرقاء عند بيكاسو، وبعض من أهم أعمال ادوارد هوبر (1882- 1967)، فضلا عن بعض من أعمال منحوتات جياكوميتي، وهنري مور (1898- 1986)، ألم تكن، كلها، كأنّ كآبتها وليدة هذا الأرق المخضرّ المستدعَى من الطبيعة؟ من الطبيعة البكر، ليس الطبيعة المخضبة بدمها بفعل إجرامنا.
أقول هذا لأمهد لما أودّ طرحه بخصوص (الإيكوميلانكوليا)، إذ لا أريد أن يظن بأنها مرتبطة بالخراب البيئي- الطبيعي فحسب، بل هي متولدة كجزء من حياتنا في حضن الطبيعة- الأم، وإن كان الخراب منبعا خصبا لها، إلا إنها تنبت في نفوسنا فتكون الطبيعة علاجنا، ومأوانا، منبع النور- (التلألؤ- Luminosity)- الذي يضيء ظلامنا الداخلي. وإذا كانت الميلانكوليا ارتبطت بالأرض، بالتراب عند الأقدمين، فلأنها (السوداء) تسحب الإنسان نحو الطبيعة مغرية إيها بالعزاء الحق، لتبعده عن محيط بشري لم يجد فيه إلا الألم. فهي خليط من هواء (برودة) وتراب (يبوسة) كأنها صورة الطبيعة معكوسة في داخل الإنسان. (أرضيّة) الكآبة سببُ شيطنتها في العصور القديمة، مثلما هي سبب تقديسها مع تحول النظر في نهايات القرن الخامس عشر، مع مارسيليو فيسينو (1433- 1499) إذ وجد فيها جماع الحب الأفلاطوني والعشق الإلهي بصوفيّته المسيحية. يكتب مؤرخ الفن روي سترونج: "حوّل فيتشينو ما كان يُعتبر حتى ذلك الحين أشدّ الأمزجة كارثيةً إلى علامة عبقرية. فلا عجب إذن أن تصبح مشاعر الكآبة في نهاية المطاف مُلحقًا لا غنى عنه لكلّ من يزعمون أنهم فنانون أو مفكرون".
ومع الثورة الصناعية ونشأة النزعة الفرديّة المستندة إلى مواطنة تبنتها الدولة الحديثة، أصبحت الكآبة علامة لذاتية متفردة وفرديّة تسعى إلى الخلاص من هيمنة اجتماع المدينة الصناعية بالانزواء في رحمٍ طبيعي، وهذا ما عبر عنه (لورد بايرون ١٧٨٨- ١٨٢٤) بقوله: "هناك متعة في الغابات الوعرة التي لم يسلكها أحدٌ. هناك طرب في الشواطئ المهجورة، هناك مجتمع لا يتطفل عليه أحد، في أعماق البحار، والموسيقى في هديره". وكان جان جاك روسو (1712- 1772) من قبل قد رأى بأن العلوم والفنون سب تدهور إنسانيتنا: "لنغفل ما ابتدعه الإنسان، ظنا منه أنه تقدّم ورقي، لنغفل أخطاءه ورذائله وكل مبادراته الخادعة، عندها لن نرى في الكون كله سوى الخير" (ص 59)، و"نحن جزء حقير من كلٍّ لا نقف على حدوده" هذ الكلّ تحكمه روابط متشابكة لا يضيع منها شيء أو ينحل في المجموع، وفي هذا الترابط الإنسان هو السيّد (ص 49) لكن كل ما حوله سعيد إلا هو بئيس (ص51). فالعودة إلى الطبيعة عند (روسو) دعوة للنأي عن المنجزات الإنسانية، فهي أقرب إلى الطوباوية منها إلى الواقعية، وهذا الصراع بين الطبيعة والثقافة ظلّ يجلل وجه حضارتنا، فبرغم الحماسة للطبيعة في القرن الثامن عشر إلا أنها تراجعت فيما بعد، وكانت حروب القرن العشرين الكبرى سبباً رئيسا في ايقاظنا، لكننا ختمنا القرن باليأس إلا من النقد، فلم نعد أحرارا إلا به، وهذ النقد شمل مع مطلع القرن الحالي نظرتنا إلى واقعنا، إذ لم يعد واقعا بسيطا، أو بدهيّا، بل نحن نعيش اختلاطه بالخيال ليتشكّل ما أسماه بودريارد- 1929- 2007 (الواقع الفائق - Hyperreality) حيث يُستبدَل الواقع بمظاهر أو نسخ منه أكثر جاذبية، وفي واقع كهذا تغيّب الهوية الفردية ذاتها بنسخ مصنّعة منها، ونماذج مُشيّدة عنها؛ الأمر الذي يركّز العزلة، ويعزز شعورنا باللامعنى، فبحسبه "السيمولاكر لا يخفي الحقيقي أبدا، بل إنّ الحقيقي هو الذي يخفي واقع عدم وجود شيء حقيقي، إنّ السيمولاكر هو الحقيقي"، في عالم كهذا من الصعب أن تتحول شعارات البيئويين إلى وقائع، فكل شيء تحقق لا يمكن التخلي عنه إلا بما يحقق ربحا أكبر، في صراع رأسمالي يُعاد تشكيل الأرض ومن عليها، بل الكون كله، بحسب الرؤية الرأسمالية، لذا من الطبيعي أن نشهد ولادة جماعات بيئوية ناقدة، مصحوبة برؤية عملية، مثل جماعة (الجبل المظلم). بين تفاؤلٍ مفرط بالقدرة على التأثير، وتشاؤمٍ يلوّح برايات النهاية القريبة للأرض ومن عليها، سعى بعض المفكرين والنشطاء للحديث عن أنّ التأثير البشري يبقى محدودا مهما تعاظم، لكن ما نعيشه اليوم، بفعل انفتاح المجتمعات البشرية على مشاكل بعضها، جعل من قتامة الصورة تتغلب، فلحظات السعادة، إن على المستوى الفردي أو الاجتماعي، لا تمسك بها الذاكرة، بل تمسك، وتتمسك بلحظات الشقاء، وكأن (الكآبة) ملعبنا الوحيد، وكل المتغيرات الأخرى محطات استراحة. في مناخنا النفسي هذا ارتبط الاكتئاب (الميلانكوليا) بفقدان الاهتمام بالعالم الخارجي، بل ربما فقدان الشعور به، وكأننا في مجالنا هذا أمام تحول من اهتمام مفرط إلى إهمال مفرط، هذا الفقدان يرتبط عنده (الكئيب) بأعراض الحزن والألم العاطفي، التي هي جوهر المزاج المكتئب، كما أوضحEhrenberg) (414:2000، ومع تنامي تأثير الإنسان على محيطه يتنامى الاكتئاب أيضا، حتى أصبح عصرنا (عصر الاكتئاب).
وفي الغالب فإن عدم الاهتمام، الذي قد يصل حد كره المكان (Oikophobia) والنفور منه، مسطّح لتحول شعوري (Emotional Contradiction)، إذ في حقيقته، فإنه ليس سوى ازدواجية عاطفية (Emotional Dichotomy) متولدة عن تعلق مرضي بالمكان (Oikophilia)، لم نستطع أن نكون أوفياء له. لقد خذلنا المكان، خذلنا منزلنا. هذا (الجبن) لن نتخلص من حباله التي تخنق الروح إلا بالانتحار أو التحول العاطفي. وإذا كانت الأوكيوفيلية محرك الجمال الفرح، الجمال المزهو بالطبيعة، وبالإنسان، الجمال البيئي في شكله المنشود وسط خرابنا، فإن (Oikophobia) ينتج عنها جمالا مقابلا؛ جمالا يصوّر الخراب في المكان وفي الطبيعة، ولا يأتي التغني بالمكان في وسط نشيد الخراب الحاكم هذا إلا لبيان لا نهائية الخراب أو لا محدوديته، أو هوله..
ملاحم الخراب وغنائياته
لم يُخلّد الإنسان شيئا مثلما خلّد الخراب في فنونه المختلفة،
لكي يُغير الأجل المحدد، وتُلغى الخطط المقدرة.
تجمعت العواصف لتضرب كالطوفان.
لكي تغير النواميس الإلهية لسومر.
لتُدمر المدينة، ويُدمر المعبد.
ولكي يغير موضع الملوكية.
وتدنس الحقوق والنواميس.
ليسلط ويل العواصف على البلاد.
وتُلغى النواميس الإلهية بأمر أنو وانليل.
لم يعد الناس يسكنوا في ديارهم، وأنهم أسلموا للسكن في أرض الأعداء.
وأخِذَ أبي-سين مكبلاً إلى عيلام.
كالطائر هجر عشه، ولم يعد إلى مدينته.
تحولت المدينة وما حولها إلى خراب.
"ما هذه الجذورّ المتشبثة بالأرض، وأية أغصان تنمو
من هذه النفايات الحجرية؟
يا ابن آدم
أنت لا تملك أن تقول أو تخمن شيئاَ، أنت لا تعرف
غير كومة من الصور المهشمة، حيث تسفعك الشمس،
والشجرة الميتة لا تمنح ظلا، ولا الجندب راحة،
ولا الصخرةُ الجافة صوت ماء.
ليس سوى الظل تحت هذه الصخرة الحمراء
(تعال تحت ظل هذه الصخرة الحمراء)
لأريك شيئاً مختلفاً عن ظلك المسرع
خلفك في الصباح،
أو ظلك الذي ينهض في المساء ليلاقيك.
سأريك الخوفَ في حفنةٍ من تراب.
هذا ما كتبه إليوت في ملحمته الشعرية (ملحمة عصرنا) قصيدته (الأرض اليباب) وهو يصور ما حل بالإنسان وفضائه الحيوي. هذا الإنسان الذي فقد ذاته، بتناثرها زجاجا هشمه الجدب، مغروسة في نفاياته، هذا التقابل بيننا ذواتا محطمةً ونفايتنا اختزالٌ لعالمنا المعاصر؛ فما سوى هذه المقابلة عالمٌ أمتناه (الشجرة الميتة، الجندب بما يحمله من دلالة على هلاك الزرع، الصخرة الجافة)، وما دخول صوت الرائي: تعال لأوريك. بما يمنحه للقصيدة من بعد رؤيوي إلا مسعى للإيغال في تعظيم صورة الخراب. وهذا ما نلمسه في مرثية السياب لمقبرة أم البروم التي ابتلعتها المدينة - البصرة:
رأيت قوافل الأحياء ترحل عن مغانيها،
تطاردها وراء الليل أشباح الفوانيسِ.
سمعت نشيج باكيها،
وصرخة طفلها وثغاء صاد من مواشيها.
وفي وهج الظهيرة صارخًا "يا حاديَ العيسِ".
على ألمِ مغنِّيها.
يختلط هنا رثاؤه للأحياء برثائه للموتى، فقوافل الأحياء الراحلة تصوّر حجم الفاجعة التي حلّت بالمكان التي انعكست بوضوح في بكاء الطفل الجائع وعطش الماشية، والألم المعتصر بين كلمات أغاني الحادي ولحنها.
ويكتب سعدي يوسف:
لم يبق من النخل سوى أعجاز خاوية
إن سماء بيضاء
سماء كانت خضراء
تمد يديها نحو سماء ثالثة:
"أنا عريانة
أنا عريانة
ذهبت بالنخل مدافعهم
ذهبت بالأهل مدافنهم
أنا عريانة"
والبصرة يدخل تحت شوارعها
تدخل تحت الماء أجاجا
تدخل تحت الكتب المصفوفة
تدخل في الروح ولا تخرج الا والروح..
مدينتنا!
من ضيع عادات النورس؟
من جاء بغربان الجثث الأولى؟
من جاءك بالأكياس الرملية يا فيروز الشطآن؟
من غطى سباخك بالقتلى؟
▪︎ الخاتمة: في التأسيس لما يأتي
مازال النظر في الإيكوميلانخوليا تأسيسيا يحتاج إلى تضافر جهود باحثين عدّة، ومن مجالات مختلفة، واهتمامات مغايرة لترسيخه مصطلحا نملأ به مجالا خصبا من الفعل الفني، وتجلياته المرتبطة بفضائنا، أو مجالنا الحيوي، إذ لم يعد ما نعيشه اليوم من تحول بيئي بسبب الاحتباس الحراري يقصر على مكان دون غيره، بل أصبح شاملا لكرتنا الأرضية، فيما تأثيرنا الضار امتدّ نحو الفضاء، فأصبحت مخلفاتنا تطوق غلافنا الجوي، لنعلن عن مرحلة جديدة مما يمكن تسميته (تخريب الكون). هذا الخراب الكوني تجلى، إعلاميا، في التظاهرات، والرفض الفئيوي، ونحن هنا أمام تجلٍّ إيجابي لكن ماذا عن التجليات السلبية؟ ماذا عن تحوله إلى همّ مرضي عند بعض النفوس القلقة؟ نحن هنا أمام استجابة مختلفة، استجابة يختلط الخوف فيها بفقدان الأمل! ثمة عالم جميل قطفته أيدي المنتفعين وغرست محله عالما مهترئا، والتلال الشامخة بأشجارها، ها هي ذاتها شامخة بنفاياتنا من ناطحات سحاب، وأبراج طاقة، ومرسلات، ومليارات من البشر المتعاظم عددها حد فقدان القيمة، كائنات أخرى أكلها تعاظمنا فمنها ما انقرض ومنها ما في طريقه للانقراض... إلخ. لوحة كهذا كيف يمكن أن تنطبع في ذهن فنان؟ الكثيرون قتلهم الرعب مما نحن فيه، وأكثر منهم مَن ما يزال يصارع راسما بإبداعه بكائية للخراب، أليس هذا ما فعله (إليوت)؟ ألم تكن لوحة (انتصار الموت) للهولندي (بيتر بروجيل) نبوءة بعالم يصنع موته؟ أينما التفتنا ثمة إبداع يثير فينا رغبة بالبكاء، أغنية، موسيقى، لوحة، منحوتة... كل هذا يؤكد أن ثمّة ما هو أكثر من مجرد الكآبة العابرة، بل نحن أمام كآبة متجذرة، كآبة ولدها شعورنا بالعجز أمام عالم يتهدم بنا، ومنّا. إننا نعيش الإيكوميلانخوليا، لكن ليس بمقدورنا جميعا التعبير عنها، بعضنا يعبّر إبداعيا، والآخر يعبر بنحيبه المسموع أو المكتوم.
المصادر
1. أبو سعدة هشام جلال، البعد الخامس (التصميم الحضري، أجواء المدينة)، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ط1، 2018.
2. إليوت ت. إس. الأرض اليباب: ترجمة جديدة، فاضل السلطاني، موقع الجديد: 3/ 3/ 2021: https://www.aljadeedmagazine.com
3. إيلول (جاك)، خدعة التكنلوجيا، ترجمة: فاطمة، مكتبة الأسرة، القاهرة، ط1، 2004.
4. باومغارتن غوتلب، الاستطيقا: الفصول التأسيسية، ألكسندر ترجمة: كريم الصياد، منشورات معنى، الرياض، ط١، 2023.
5. بودريار (جان)، الفكر الجذري (أطروحة موت الواقع)، ترجمة: منير الحجومي، وأحمد القصوار، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 2006.
6. بودريار (جان)، المصطنع والاصطناع، ترجمة: جوزيف عبد الله، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008).
7. دوي جون، الفن خبرة، ترجمة زكريا إبراهيم، المركز القومي للترجمة (1822)، القاهرة، ط1، 2011.
8. روسو (جان جاك)، دين الفطرة، ترجمة: عبد الله العروي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط١، 2012.
9. سكرتون (روجر)، الجمال، ترجمة: بدر الدين مصطفى، (القاهرة: المركز القومي للترجمة (1998)، 2014).
10. الشربیني (لطفي)، الاكتئاب، المرض، العلاج، منشأة المعارف، القاهرة، ط1، 1998.
11. فرويد (سيغموند)، الحزن والاكتئاب، ترجمة: محمد أبو زيد، مؤسسة المعمل والمشهد المقدسي، ٢٠٠٩.
12. كنت إيمانويل، نقد ملكة الحكمة، ترجمة: د. غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط١، 2005.
13. مسعد (هند)، لوحات الطبيعة الصامتة.. رومانسية تحاول التكفير عن حماقات العقل، موقع الجزيرة على النت، 11/ 7/ 2018: https://www.aljazeera.net/midan/art/finearts/2018/7/11
14. موريزو جاك وروجيه بويفيه، قاموس الإستطيقا وفلسفة الفن، ترجمة: د. سلوى النجار وآخرون، هيئة البحرين للثقافة والآثار، المنامة، ط١، 2022.
المصادر الإنكليزية
1. AESTHETICS AND ENVIRONMENT: THEME AND VARIATIONS ON ART AND CULTURE, Arnold Berleant, Ashgate Publishing Limited, England- USA, 2005:
2. Allen Carlson, AESTHETICS AND THE ENVIRONMENT, The appreciation of nature, art and architecture, Routledge, London, First published 2000, p. 73. And Ned Hettinger, Allen Carlson's Environmental Aesthetics and the Protection of the Environment. https://hettingern.people.charleston.edu/Hettinger_Carson_Environmental_Aesthetics.pdf
3. Allen Carlson, AESTHETICS AND THE ENVIRONMENT.
4. Atmospheric Architectures: The Aesthetics of Felt Spaces, GERNOT BÖHME, EDITED AND TRANSLATED BY: A.-CHR. ENGELS-SCHWARZPAUL, BLOOMSBURY and the Diana logo are trademarks of Bloomsbury Publishing Plc
5. Brady, Emily. “Environmental Aesthetics.” Encyclopedia of Environmental Ethics and Philosophy. Ed. J. Callicott and Robert Frodeman. Vol. 1. Detroit: Macmillan
6. Emotions outside the box—the new phenomenology of feeling and corporeality. Hermann Schmitz & Rudolf Owen Müllan & Jan Slaby. Published online: 8 February 2011. # The Author(s) 2011. This article is published with open access at Springerlink.com.
7. FACE TO FACE WITH THE LANDSCAPE, Yrjö Sepänmaa. https://nyydiskultuur.artun.ee/wp-content/uploads/2020/08/KP1_02sepanmaa.pdf
First published in English, 2017: p. 14.
8. Melancholia, WIKIPEDIY: https://en.wikipedia.org/wiki/Melancholia
9. Nature, aesthetic appreciation of, By Carlson, Allen: https://www.rep.routledge.com/articles/thematic/nature-aesthetic-appreciation-of/v-1/sections/positions-and-problems
Reference USA, 2009. 313-321.
10. Scientific Cognitive Environmental Aesthetics: What is the basis for appreciating aesthetic qualities?: https://abell2live.wordpress.com/2011/08/08/scientific-cognitive-environmental-aesthetics-what-is-the-basis-for-appreciating-aesthetic-qualities/
11. Scruton, Roger, Green Philosophy
12. Why I stopped believing in environmentalism and started the Dark Project: https://www.theguardian.com/environment/2010/apr/29/environmentalism-dark-mountain-project