
فلسفة دولة... حوكمة الدستور في ضوء التزامات التنمية المستدامة

مازن صاحب الشمري
24/5/2025، 11:23:09 ص
تشكل أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة 2030 إطاراً شاملاً يربط بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية. في السياق العراقي، تكتسب هذه الأجندة أهمية استثنائية نظراً للتحولات الجذرية التي يشهدها البلد منذ 2003.
تكمن الإشكالية المركزية في وجود فجوة عميقة في فلسفة بناء دولة بين الإطار الدستوري المتقدم نظرياً، وواقع الحوكمة السياسية المعيق لتحقيق التنمية المستدامة، خاصة في ظل التحديات الديموغرافية التي يكشف عنها التعداد السكاني.
تشير آخر بيانات التعداد السكاني إلى أن عدد سكان العراق تجاوز 43 مليون نسمة، بمعدل نمو سنوي يصل إلى 2.5%، وهو من أعلى المعدلات في المنطقة. هذه الزيادة السكانية السريعة تفرض ضغوطاً هائلة على الموارد والخدمات الأساسية، مما يجعل تحقيق أهداف التنمية المستدامة أكثر إلحاحاً وتعقيداً في آن واحد. تتمثل أهداف التنمية المستدامة في خطة عمل لتحقيق مستقبل أفضل وأكثر استدامة للجميع، وتتصدى هذه الأهداف للتحديات العالمية كدول منضمة الى ميثاق الامم المتحدة، بما في ذلك التحديات المتعلقة بالفقر وعدم المساواة والمناخ وتدهور البيئة والازدهار والسلام والعدالة، فضلا عن ترابط الأهداف، وللتأكد من ألا يتخلف أحد عن الركب، فمن المهم تحقيق كل هدف من الأهداف بحلول عام 2030. يشكل مفهوم الحوكمة السياسية إطاراً نظرياً حيوياً لفهم آليات تحقيق التنمية المستدامة، وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تتضمن الحوكمة الرشيدة أربعة أركان أساسية: المساءلة، الشفافية، المشاركة، وسيادة القانون، هذه الأركان تتفق جوهرياً مع متطلبات الهدف السادس عشر من أهداف التنمية المستدامة الذي يركز على "تعزيز المجتمعات السلمية والعادلة". في الجانب الدستوري، تبرز نظرية "الدستور الحي" التي طورها القاضي الأمريكي أوليفر وندل هولمز، التي تؤكد ضرورة تفسير النصوص الدستورية في ضوء الواقع السياسي والاجتماعي المتغير، هذا المنظور يكتسب أهمية خاصة في الحالة العراقية، حيث يشهد النظام السياسي تحولات متسارعة تتطلب قراءة ديناميكية للنصوص الدستورية. يشكل مفهوم الحوكمة السياسية الإطار النظري المحوري لهذه الدراسة، حيث يُعرّف بأنه "نظام التفاعل بين المؤسسات الرسمية وغير الرسمية وعمليات صنع القرار التي تحكم المجتمع". في السياق العراقي، تكتسب نظرية "الدستور المعايش" (Living Constitution) أهمية خاصة، والتي تؤكد على ضرورة تفسير النصوص الدستورية بشكل ديناميكي يتناسب مع التغيرات السكانية والاجتماعية. يعاني نظام الحوكمة في العراق من إشكاليات هيكلية تعيق تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، وفقاً لمؤشر الحوكمة العالمية الصادر عن البنك الدولي، يحتل العراق مراتب متأخرة في مؤشرات فاعلية الحكومة وسيادة القانون. هذه الوضعية تنعكس سلباً على القدرة التنفيذية للدولة في تحقيق الأهداف التنموية.
تشير بيانات التعداد إلى تحولات ديموغرافية عميقة، جعلت معدل الإعالة العالي (65 معال لكل 100 فرد في سن العمل) و ارتفاع نسبة الشباب العاطلين عن العمل (36% بين الفئة العمرية 15-24) ، كذلك قوة الشباب المتمثلة في كون 60% من السكان تحت سن 25 سنة، فيما وصلت الكثافة السكانية إلى 82 فرد/كم² ، وهناك 70% من السكان يعيشون في المناطق الحضرية ، هذه المؤشرات الديموغرافية تفرض إعادة قراءة النصوص الدستورية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية (المواد 29-34) في ضوء متطلبات هذه التركيبة السكانية الفتية ومتوسطة التحضر. يقدم الدستور العراقي لعام 2005 إطاراً قانونياً متقدماً من حيث المبدأ، حيث تضمن نصوصاً صريحة تدعم مفاهيم الحوكمة الرشيدة. المادة (15) التي تكفل المساواة أمام القانون، والمادة (19) التي تضمن استقلال القضاء، تشكلان أساساً نظرياً قوياً لتحقيق العديد من أهداف التنمية المستدامة. لكن الواقع العملي يكشف عن تحديات جسيمة في التطبيق. نظام المحاصصة السياسية الذي تكرس بعد 2003 أدى إلى إفراغ العديد من النصوص الدستورية من مضمونها. على سبيل المثال، المادة (102) التي تنص على إنشاء هيئة النزاهة العامة، لم تمنع تفشي الفساد الذي يقدره البنك الدولي بأنه يكلف العراق ما يقارب 40% من موازنته السنوية. في مجال اللامركزية الإدارية (المواد 116-122)، تظهر الفجوة بين النص والواقع بشكل جلي، فبالرغم من النصوص الدستورية الواضحة، لا تزال عملية صنع القرار مركزية إلى حد كبير، مما يعيق تحقيق الهدف الحادي عشر من أهداف التنمية المستدامة المتعلق بالمدن والمجتمعات المستدامة. في مجال التعليم (الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة)، تكشف البيانات عن تناقض صارخ. فبينما يخصص الدستور في المادة (34) حق التعليم المجاني، تشير تقارير اليونسكو إلى أن 3.2 مليون طفل عراقي خارج النظام التعليمي، فيما تصل نسبة الأمية في بعض المحافظات إلى 30%. هذا التناقض يعكس ضعف آليات الحوكمة في تحويل النوايا الدستورية إلى سياسات فعلية. كما تكشف بيانات التعداد عن وجود 23% من الأطفال في الفئة العمرية 6-14 سنة خارج المدارس، وتفاوت صارخ بين الجنسين في معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة (87% للذكور مقابل 78% للإناث). في القطاع الصحي (الهدف الثالث)، توضح دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية أن النظام الصحي العراقي يعاني من اختلالات هيكلية في التوزيع الجغرافي للخدمات، حيث تتركز 70% من الكوادر الطبية في بغداد والمحافظات الغنية، مما ينتهك مبدأ العدالة الجغرافية الذي أكدت عليه المادة (30) من الدستور، فيما تظهر أرقام التعداد كثافة سكانية تصل إلى 1,200 فرد لكل مركز صحي في بعض المناطق، وتفاوت كبير في توزيع الكوادر الطبية (70% في المدن الكبرى). كما يعاني نظام الحوكمة في العراق من إخفاقات هيكلية في مواكبة المتغيرات الديموغرافية، تتمثل في التخطيط الحضري بوجود نمو عشوائي للمدن بنسبة 4% سنوياً، مما يظهر 40% من سكان الحضر يعيشون في أحياء غير منظمة. وفي سوق العمل ضرورة توفير مليون فرصة عمل سنوياً لمواكبة النمو السكاني البالغ 42% من القوى العاملة في القطاع غير المنظم يضاف الى ذلك الخدمات الأساسية حيث تظهر 23% من الأسر بدون إمداد مائي آمن مقابل 35% من المدارس تعمل بنظام الفترتين.
ما زالت ثمة فجوة ما بين فكرة التقرير الطوعي دوليا والتنفيذ عراقيا، حيث لابد من الالتزام بمعايير الحوكمة في اعداد وصياغة التقرير الطوعي، والتي ما زالت غائبة في التقريرين الماضيين فيما نسمع ونقرأ عن اجتماعات وتدريبات تجري لإعداد التقرير الثالث، يضاف الى ذلك، ان التقرير الطوعي لايلقى ذلك الصدى الاعلامي في تبيان وقائع الالتزام العراقي بتنفيذ اهداف الالفية الثالثة للتنمية المستدامة، فحين تعلن وزارة التخطيط، عن اقرار الصيغة النهائية لمسودة التقرير الطوعي الثالث للتنمية المستدامة، الذي سيقدمه العراق للمنتدى عالي المستوى للأمم المتحدة في شهر تموز المقبل.
لم تنشر هذه الوزارة ولا الجهات الدولية الراعية تلك المسودة لكي يتم تدارسها في ورش عمل مع منظمات المجتمع المدني ووسائل الاعلام المحلية لإظهار تلك الحقائق المطلوب تأشيرها بكونها حالات تقدم محرزة في التزامات العراق بتلك الاهداف، وربما - كما حصل سابقا - يتم الاكتفاء بعد ندوة تستعرض خلالها نتائج التقرير الطوعي الثالث الذي لابد وان يظهر نتائج تطابق الالتزام بأهداف التنمية المستدامة مع نتائج التعداد السكاني العام، وفق حسابات احصائية دقيقة في الفقر والبطالة والسلم الاهلي وغيرها من اهداف التنمية مثل المناخ والبيئة والتعليم والصحة، مثال ذلك نسبة الاطباء لكل مواطن عراقي، نسبة المدراس لكل السكان المشمولين بعمر الدراسة وهكذا. ما زال العراق يفتقد كليا لمثل هذه الاحصائيات الصحيحة ويعتمد كليا على تخمينات الاحصاءات الدولية. الجدير بالذكر ان التقرير الطوعي الوطني الأول للعراق (2021) قد كشف عن فجوة كبيرة بين الطموحات المعلنة والواقع الميداني، فعلى الرغم من التأكيد على التزام العراق بأهداف التنمية المستدامة، يظل التقرير غائباً عن تقديم مؤشرات أداء دقيقة أو خطط تنفيذية واضحة. وفق ما تقدم، يبدو من الممكن القول طرح مشكلة وجود فجوة عميقة بين الإطار الدستوري العراقي وقدرة نظام الحوكمة على تحقيق أهداف التنمية المستدامة. هذه الفجوة تتطلب إصلاحات هيكلية في عدة مستويات :
أولاً : على المستوى الدستوري، ضرورة تعديل المواد التي تتيح تفسيرات متضاربة، وتعزيز آليات الرقابة على تنفيذ النصوص الدستورية.
ثانياً : على مستوى الحوكمة، إعادة هيكلة المؤسسات التنفيذية وفق معايير الكفاءة والشفافية، واعتماد نظام للمساءلة يعتمد على مؤشرات أداء واضحة.
ثالثاً : في مجال التنمية المستدامة، ضرورة إعداد خطط تنفيذية تفصيلية ترتبط بموازنات زمنية ومالية محددة، مع إشراك حقيقي للمجتمع المدني في عملية الرصد والتقييم.
رابعا : هناك أكثر من 27 استراتيجية وطنية أثبتت فعاليتها في أهداف التنمية المستدامة التي تؤكد على التصنيع المستدام، وتطوير البنية التحتية، والاستثمار في رأس المال البشري، وكلها متوافقة بشكل وثيق مع الهدف 9 من اهداف التنمية المستدامة، وتعطي هذه الاستراتيجيات الوطنية الأولوية للانضباط المالي، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وتعزيز نمو القطاع الخاص، وبالتالي خلق بيئة مواتية للاستثمارات المتوافقة مع أهداف التنمية المستدامة.
اخترنا لكم

التفسير مرآة لعصر المفسِّر
28/8/2024، 11:38:59 م

برغم القمع الأكاديمي... إحتجاجات الطلبة تتخطى أسوا...
29/8/2024، 12:03:16 م

إغراق السفن... تكتيك حوثي يربك الملاحة في البحر ال...
21/7/2025، 11:21:33 ص

محركات إقتصادية
21/7/2025، 1:04:22 ص

الفردوس بين الأسطورة والحداثة
21/7/2025، 12:38:24 ص

بعد إعلان النتائج... السوداني أولا على مستوى العرا...
14/11/2025، 8:32:08 ص

قرن المنازلة
10/12/2024، 3:21:00 م

مستقبل الأموال العامة في ظل حكم مجهول المالك -2-
8/12/2024، 9:09:09 م

طيران فوق عش الوقواق
8/12/2024، 8:55:57 م