
حرب المصالح... سوريا مسرحا لصراع نفوذ بين تركيا واسرائيل

مراصد
30/5/2025، 12:31:56 م
تصاعد التوتر بين إسرائيل وتركيا بات يتخذ من سوريا مسرحا جديدا للتنافس بينهما، حيث تتجلى الحقائق في صورة صراع نفوذ، لتصفية حسابات إقليمية ذات مصالح ورؤى استراتيجية متناقضة.
ومع إحتدام الصراع مؤخرا، لجأ الطرفان إلى إجراء مباحثات لتجنب وقوع صدام عرضي بينهما داخل الأراضي السورية، وأُجريت الجولة الأولى من هذه المباحثات في أذربيجان في 9 نيسان 2025، بهدف التوصل إلى صيغة تفاهمات واضحة لتفادي تصعيد التوتر مجددا؛ ولكنها لم تسفر عن نتائج ملموسة. من جانبه، أجرى رئيس الأركان الإسرائيلي، إيال زامير، يوم 20 نيسان الماضي، جولة ميدانية في المناطق التي يحتلها جيشه في سوريا، برفقة عدد من قيادات الجيش، مؤكداً الخطط الموضوعة للحفاظ على السيطرة في تلك المناطق؛ وهو ما يثير تساؤلات عن مستقبل التنافس التركي الإسرائيلي في سوريا.
▪︎ مصالح تركية
ترى تركيا في وحدة سوريا واستقرارها ضمانة لأمنها القومي، وتسعى بشكل خاص إلى تحجيم النفوذ الكردي ومنع قيام كيان مستقل في الشمال، وهو أمر يتناقض مع مصالح تل أبيب التي تسعى إلى تفكيك سوريا لتجنب أي تهديدات، وبالتالي إضعاف حكومتها بما يخدم مصالحها الأمنية. ويُشار إلى أن التنسيق بين تركيا وإسرائيل كان قائمًا حتى كانون الأول الماضي، تاريخ سقوط نظام بشار الأسد، حين كان الهدف من التعاون هو مواجهة إيران وسياساتها في المنطقة، لكن بعد هذا التاريخ، بدأت المصالح التركية الإسرائيلية تتباعد بشكل كبير. وعلى الرغم من أن الاحتقان هو سيد المشهد في سوريا، إلا أن فرص المواجهة المباشرة بين تركيا وإسرائيل في سوريا تبدو بعيدة، خصوصًا بعدما أعطت مقاربة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن الخلافات بين تركيا وإسرائيل دفعة معنوية إلى أنقرة، إذ أكد خلال لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشنطن، في آذار الماضي، ضرورة حل الخلافات مع تركيا، وأنه قادر على إنهاء هذه الخلافات بحكم علاقته القوية مع الرئيس رجب طيب إردوغان.
وأعقبت هذه المقاربة الأميركية محادثات بين أنقرة وتل أبيب عُقدت في العاصمة الأذربيجانية، باكو، الشهر الماضي، هدفت إلى وضع آلية لتفادي التضارب من أجل منع الوقائع غير المرغوب فيها في سوريا. في حينه اوضح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، أن المحادثات تناولت الاتفاق على آلية لمنع وقوع حوادث أو صدام في سوريا حيث ينشط جيشا الجانبين، وفتح قناة اتصال لتجنب سوء فهم محتمل بخصوص العمليات العسكرية في المنطقة. لكنه استبعد تطبيع العلاقات مع إسرائيل، على خلفية العدوان الإسرائيلي الواسع على قطاع غزة.
يُشار إلى أن تركيا تقف إلى جانب الإدارة السورية في مواجهة الهجمات الإسرائيلية ،على أن أولوية تركيا القصوى هي حماية حدودها من المنظمات التي تصنفها بالإرهابية، علمًا بأنها عضو في التحالف الدولي ضد "داعش". كما يُثير التنامي المحتمل للعلاقات بين إسرائيل والأكراد في سوريا قلق أنقرة، وهو ما قد يشكل تهديدًا في حال بسطت إسرائيل سيطرتها على الأجواء السورية وامتد نفوذها إلى مناطق تواجد "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، أوثق حلفاء واشنطن في الحرب على "داعش" في سوريا. في هذا السياق المعقد، تبدو تركيا عالقة بين نفوذها الإقليمي وقيود الواقع الميداني والتوازنات الدولية القائمة، مستبعدة في الوقت نفسه المواجهة العسكرية، حيث أكد وزير خارجيتها أن "أنقرة لا تسعى لفتح مواجهة عسكرية مع إسرائيل في سوريا".
▪︎ اهداف إسرائيلية
تتخوف إسرائيل من سطوة أنقرة على دمشق، وتعمل على تحقيق أهدافها في سوريا منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد، وبعدما استولت على أراض في جنوب غرب البلاد وأعلنت استعدادها لحماية الأقلية الدرزية ضغطت على واشنطن كي تبقي سوريا دولة ضعيفة وفجرت الكثير من الأسلحة والعتاد العسكري السوري الثقيل في الأيام التي تلت سقوط الأسد.
وفي أعقاب الضربات الإسرائيلية التي استهدفت قواعد عسكرية جوية في حماة وحمص في غرب ووسط سوريا، قيل إن تركيا كانت تعتزم استخدامها كقواعد لقواتها، بدا أن إسرائيل تستهدف بشكل متزايد المصالح التركية في هذا البلد. على لسان وزير خارجيتها جدعون ساعر، اتهمت إسرائيل تركيا، بالسعي إلى إقامة "محمية تركية" على الأراضي السورية، ما يزيد من تعقيد الوضع، وسارع الرئيس التركي للرد، فشن هجومًا حادًا على إسرائيل واصفًا سياساتها بأنها "تهديد للسلام"، وقال إن "تحركات إسرائيل في سوريا تمثل تهديدًا للسلام"، مضيفًا أن "آخر ما تريده إسرائيل هو تحقيق الاستقرار والهدوء، بل هي تستفيد من الدماء والفوضى". وأضاف أن "إسرائيل، التي لا تتوانى عن إشعال الحروب في المنطقة، تشعر بالانزعاج من قوة تركيا في المنطقة، ونحن لن نسمح بجر سوريا إلى صراعات جديدة"، مشيرًا إلى أن "الجميع يجب أن يعمل معًا من أجل بناء سوريا جديدة قائمة على وحدتها وسيادة أراضيها".
▪︎ صراع نفوذ
في ظل تصاعد التدخلات الإسرائيلية في سوريا ولبنان، تبرز الطائفة الدرزية كورقة ضغط تستخدمها تل أبيب لتبرير تحركاتها العسكرية، وسط تحذيرات من محللين بأن هذا التوظيف يخدم مشروعًا أوسع لإعادة تشكيل سوريا كدولة ضعيفة ومقسمة بما يتماشى مع المصالح الإسرائيلية. ما حصل مؤخرا بين الدروز في جبل العرب وريف دمشق، وحكومة الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، ليس إلا مستصغر الشرر الذي تشبّ منه النار في المنطقة كلّها، ويأتي إعلان محافظ السويداء "مصطفى بكّور" بدء تنفيذ البنود التي اتفق عليها وجهاء السويداء ومشايخ العقل، والتي قضت بتفعيل دور الضابطة العدلية في السويداء، كان بمثابة موافقة الحكومة السورية عليها وسريانها رسمياً، وبمعنى أوسع، فإن الجوّ العام يعكس اتفاق السويداء مع الحكومة، لأن المنطقة كانت تنتظر رد السلطات المركزية في دمشق. ويمكن وصف الواقع في السويداء بالحذر، ووفق الأجواء والمعطيات، فإن دروز جنوب سوريا اقتنعوا مبدئياً بأن الخيارات محدودة جداً، والخيار الأكثر واقعية والأنسب هو التعامل مع السلطة الجديدة ولهذا السبب كان الاتفاق، وأيقنوا أن إسرائيل لا تحميهم، وتدخلها في الشأن السوري يرتدّ عليهم سلباً، لكونه يشكّل عاملاً تحريضياً ضدهم.
إحدى الشخصيات الفاعلة في صفوف دروز السويداء تتحدّث لـصحيفة "النهار" اللبنانية عن أجواء المنطقة، فتقول إن إعلان بكور بدء سريان الاتفاق هو بمثابة "وقف الدم"، وقد تم الاتفاق على تفعيل دور الضابطة العدلية في المحافظة، وتأمين طريق دمشق – السويداء لتوفير المواد الأساسية.
وفي هذا السياق، يشدّد المتحدث الدرزي على أن الأمن العام "لم يمنع دخول السلع ولم يفرض سياسة تجويع"، وقد وصلت شحنات الوقود، لكن الظروف الأمنية فرضت نفسها، وقلق التجّار والموزعين من سلوك الطريق ، ويضيف " العبرة في استكمال تنفيذ الاتفاق، والجوّ العام مقبول"، لكن الصدمة كانت كبيرة لدى الدروز "الذين لم يواجهوا محنة مشابهة" منذ زمن طويل، فالتجييش بلغ "مستويات متقدمة والتحريض أيضاً"، وبالتالي معالجة تداعيات هذا الأسبوع ستحتاج إلى "وقت وإجراءات لبناء الثقة".
من جانب اخر ، قال الكاتب والإعلامي التركي كمال أوزتورك، إن إسرائيل تسعى حاليًا لخلق أزمة داخلية في سوريا عبر تأجيج المسألة الطائفية، بهدف إبقاء واشنطن منخرطة في الملف السوري. لكن رغم هذه المناورات، تبدو الوقائع على الأرض غير مواتية للمخطط الإسرائيلي. وأشار أوزتورك في مقال بموقع الجزيرة نت، إلى أن تركيا من جهتها تسعى لإقناع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتسوية سياسية تدمج تنظيم (YPG)، الذراع السوري لتنظيم (PKK)، داخل الجيش السوري الجديد، مما يضمن استقرار المنطقة دون الحاجة لمواجهة عسكرية.
وأكد أنه إذا كانت لدى (YPG) نظرة عقلانية، فإنها لن تراهن على إسرائيل، التي لم تجلب سوى الدمار للمنطقة، بل ستسعى لبناء مستقبل مشترك مع سوريا وتركيا.
▪︎ إستغلال الفشل
الى ذلك أفاد محللون وخبراء عسكريون إقليميون لصحيفة "ذا ناشيونال" الإماراتية أن إسرائيل تستغل فشل سلطة دمشق في ضمان حقوق المكونات في سوريا، حيث تقدّم نفسها كحامية للدروز، خاصة بعد موجة عنف طائفي أسفرت عن مقتل أكثر من 100 شخص في المناطق ذات الأغلبية الدرزية. ويشير المحللون إلى أن هذا التحرك الإسرائيلي ليس مجرد صدفة، إذ تُعد تل أبيب ضعف السلطة المركزية في سوريا فرصة نادرة لإعادة تشكيل حدود البلاد ونظامها السياسي بما يخدم مصالحها، في مرحلة ما بعد سقوط بشار الأسد. من جهتها، ذكرت مجلة "فورين أفيرز" الأميركية أن القوى الإقليمية والدولية تأمل في التأثير على توجهات رئيس سلطة دمشق الجديد، أحمد الشرع، حيث برزت دولتان مجاورتان، إسرائيل وتركيا، في سباق واضح لاستغلال فراغ السلطة وتعزيز نفوذهما داخل الأراضي السورية.
ويقول سنان سيدي، كبير الباحثين في الشأن التركي في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن، إنه لا يعرف ما إذا كان للرئيس ترامب استراتيجية، ليس فقط لإنهاء التوتر بين تركيا وإسرائيل، بل لسوريا عموماً بعد سقوط نظام الأسد. ومع ذلك، يضيف في حديث مع صحيفة "الشرق الأوسط" أنه من المهم التوصل إلى خفض للتصعيد بينهما.
▪︎ تصادم بلا نتائج
سيكون التصادم التركي الإسرائيلي في سوريا من أهم المحددات التي سترسم ملامح مستقبل الدولة السورية الوليدة، وهناك عدة سيناريوهات متوقعة لعل ابرزها:
اولا - تقاسم مناطق النفوذ: من المُحتمل تقاسم مناطق النفوذ بين تركيا وإسرائيل كما كان الوضع بين الروس والأمريكيين في عهد نظام الأسد، وذلك عن طريق التوصل إلى تفاهمات محكمة وموثوقة تضمن التنسيق بين الطرفين ورسم خرائط النفوذ بما يبعد احتمال وقوع أي خطأ غير مقصود يؤدي إلى نشوب مواجهة لا يرغب بها الجانبان التركي والإسرائيلي.
ثانيا - تمدد تركيا وتقلص النفوذ الإسرائيلي: من المُحتمل نجاح تركيا في مد نفوذها في سوريا على حساب النفوذ الإسرائيلي، ويمكن أن يتم ذلك على المدى القصير عبر إبرام اتفاقية دفاع مشترك مع دمشق والإشراف على تسليح الجيش السوري، وقد يشمل ذلك نشر قواعد عسكرية تركية جنوباً أو نصب منظومات دفاع جوي لمنع الطيران الإسرائيلي من انتهاك المجال الجوي؛ ومن ثم إفشال مخطط المنطقة الجنوبية منزوعة السلاح، ولا يتعارض ذلك مع بقاء القوات الإسرائيلية في مرتفعات الجولان أو حتى المنطقة العازلة التي استولت عليها بعد سقوط نظام الأسد، إذ يشعر الأتراك أن الوقت في صالحهم بالنظر إلى أن كل يوم يمر يزداد فيه رسوخ الإدارة السورية الحالية والنفوذ التركي بالتبعية.
ثالثا - الصدام بين تركيا وإسرائيل: في ظل تداخل ساحات النفوذ، بات من الوارد وقوع صدام عسكري بين الأتراك والإسرائيليين بسبب زيادة مساحات الاشتباك. وقد أوصت لجنة "ناجل" الإسرائيلية لفحص ميزانية الدفاع واستراتيجية الأمن، في كانون الاول الماضي، بالاستعداد لمواجهة عسكرية مُحتملة مع تركيا، وحذرت من أن التهديد القادم من سوريا قد يصبح أخطر من التهديد الإيراني، وأن طموحات تركيا قد تؤدي إلى نشوب صراع مع إسرائيل. لكن هذا السيناريو يبدو غير مرجح لأن الطرفين يرفضانه كونه ليس في مصلحة أي منهما. بيد أنه من الوارد أن تحدث مواجهة عسكرية غير مباشرة بين الطرفين وذلك عن طريق دعم أنقرة للسوريين في مواجهة الجيش الإسرائيلي، فقد حذّر تحليل نشره مركز "ألما" الإسرائيلي للأبحاث، في فبراير الماضي، من أن الأتراك قد يُقدّمون دعماً مباشراً للجيش السوري الجديد في أي مواجهة محتملة ضد إسرائيل؛ مما يستدعي منها إعادة تقييم حساباتها العسكرية.
رابعا - تطبيع سوريا العلاقات مع إسرائيل: في حال أقامت سوريا علاقات مع إسرائيل سيكون ذلك على حساب النفوذ التركي، فدمشق تسعى جاهدة لرفع العقوبات المفروضة عليها، وتأمين التمويل اللازم لإعادة الإعمار وعودة ملايين اللاجئين من الخارج، وإسرائيل تستطيع المساهمة في كل ذلك، ومن المُحتمل أن تتولى الولايات المتحدة زمام المبادرة للتوسط في هذا المجال. ويسيطر الجيش الإسرائيلي الآن بالفعل على 460 كيلومتراً مربعاً خلف خط الفصل، وتعهد نتنياهو بفرض نزع السلاح على منطقة شاسعة تمتد حتى طريق دمشق - السويداء السريع، على بُعد 65 كيلومتراً من موقع انتشار جيشه حالياً.