
شيخوخة الإسلاموية

د. محمد نعناع
28/5/2025، 9:22:11 ص
لا إسلاموية بلا طائفية، ولا طائفية بلا جهل، ولا جهل بلا فساد، ولا فساد بلا غياب المعايير الوطنية، وبالنتيجة تبرز الرؤى الوطنية كعلاج وحيد للطفيليات الإسلاموية.
وكنتيجة توصيفية تشخيصية ثانية في مسار الرؤى الوطنية نفسه؛ فإن الاسلاموية كظاهرة سوسيوسياسية ذات أبعاد تدميرية تتغذى على الطائفية التي تساعد في بناء الفكرة الإرهابية والعقدية العنفية، فالفكرة الطائفية ليست هي نفسها الفكرة الإرهابية، بل لها مسار تكويني أخر، وأخطر ما في هذا التمييز هو أن الإرهاب سيبدو مرفوضاً لكن الطائفية التي تساعده قد تبدو مقبولة، وقد تكون مقدمة له، أو محفزة لبيئته الحاضنة أو الداعمة، ويبدو العنف مداناً، لكن الدعوة له في الازمات ستبدو مستساغة، وفي نفس الوقت تتسلل الطائفية لتكون حالة تعبيرية طبيعية عن الانتماء، بل قد تكون حقاً يسعى من ينادي بها إلى ممارستها وفقاً للقانون والحقوق الشعبية، بل قد تبدو الطائفية فكرة من أفكار التعددية والديمقراطية
وحرية التعبير عن الذات وعن الأفكار والقناعات، ولا يتشخص غث هذا المسار الشائك من سمينه إلا في ظل الوعي الاجتماعي والنضج السياسي وممارسة النقد والتقييم الداعمين للسلم الأهلي والتعايش الاجتماعي. كانت الفرصة مواتية بشكل كبير بعد العام 2003 لممارسة الديمقراطية وزرع بذور التعايش الاجتماعي، ومن ثم الانتقال بصورة تدريجية لبناء دولة مؤسسات عصرية، وهذا يعني إماتة الطائفية في مهدها، وخصوصاً مع وجود رجال دولة يؤمنون بــ"حماية التوازن الاجتماعي"
كحقيقة راسخة لتقدم الشعوب، وليس كمجاملة وكمحطة عبور للمصالح الضيقة، لقد ارتكب المتنفذون المهيمنون على المرحلة الجديدة خطيئة كبرى عندما زجوا العراق في أتون الاستقطابات الطائفية التي أوصلتنا إلى الحرب الأهلية، والأخيرة هي التي أوصلتنا بالتدخلات الخارجية، أي أدخلتنا في مستنقع موحل من التأثيرات الخارجية التي لم نتخلص منها لحد الان، لقد اصبح الشرق والغرب يتدخل في شؤوننا بسبب الطائفية وأوهام الأفضلية الإسلاموية، وهذا التدخل لم يكن تدخلاً محدوداً بل كان تدخلاً شمولياً توسع ليشمل كل مناحي الحياة العراقية، بما فيها تغيير الشخصية العراقية وحشوها بالمقولات الإسلاموية المتضادة والمتناقضة.
إن أول سقوط للإسلاموية العراقية لم يكن خضوعها للتدخلات الخارجية فحسب، بل فشلت هذه الحركة الخزعبلاتية في تنضيج تنظيراتها الفكرية، وعبرت عن أفكارها وفلسفتها في قيادة العراق والحياة
العامة بصورة خلافية مع الأخر، ونشطت "السردية النجاتية" بين الشيعة والسنة على أساس من هو الأفضل لقيادة المجتمع العراقي، في الوقت الذي يعرف جميع المجتهدين المنصفين والمفكرين المتبحرين والمحققين الحقيقيين بأن ما يقوله متطرفو السنة عن الشيعة في سبيل تسقيطهم؛ هو موجود في السنة أنفسهم، وما يقوله غلاة
الشيعة عن السنة لإدانتهم؛ هو موجود عند الشيعة أنفسهم، وكل فريق ينكر ما يرميه الأخر به ليس على سبيل الهدى والصلاح، بل على سبيل الإيهام والتضليل، وكل المقولات السلبية التي عند الشيعة في رواياتهم ومبانيهم موجودة عند السنة، وكل الازدراءات الشيعية لتاريخ السنة هي الأخرى موجودة لدى الشيعة، فمثلاً ما استنكره الشيعة على
السنة في مجال طاعة أولياء الأمور موجود في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين في باب حق السلطان، وما يستنكره السنة على الشيعة في زواج المتعة موجود عند السنة تحت تسمية الزواج بقصد الطلاق، فهذه مشتركات بينهم، وما بينهم من مشتركات أخرى أخلاقية وإصلاحية هو الأحق بالإشاعة لما فيه من تعزيز التعايش المشترك، ولكنهم قرروا أن يُشيعوا خلافاتهم ويكثروا من الطعن ببعضهم مما تسبب بشيخوختهم المبكرة. لقد تكاثرت مثالب الإسلاموية العراقية، وهي ليست فقط محتكرة في الفشل في إدارة الدولة كاستفحال الفساد والتدخلات الخارجية ونمطيات المحسوبية الوظيفية وما شابهها، أو في عدم وضع تنظيرات فكرية إصلاحية تعايشية كالاستنباطات الأخلاقية من الخلفية الثقافية الدينية، بل في تجميل الصورة الواقعية الرثة التي ينبعث منها رائحة التضليل والبروباغندات المدفوعة الثمن كنظام الجيوش الالكترونية. وفي هذا السياق عرفت أقطاب الاسلاميوية بأن شيخوختها يتم فضحها وإضاءات الشمس بدأت تُبهر أنوار السراج، لذلك لجأت الى :
- المزيد من الدفق الطائفي : عبر إعلاء الرمزيات الدينية، وتوثيق المزاعم الشعبوية، وبهذا المسار استبدلت هذه الإسلاموية المهزومة الفكر باللطم والشعر الشعبي، وغابت ندوات النقد العلمي عن التأثير، واستبدلت ترويج الاعتدال بترويج التبرير للعقائد الضعيفة وباسلوب طائفي مقيت لا يستسيغه سوى العامة والبسطاء وأنصاف المثقفين الطائفيين.
- المزيد من الضخ المالي : وتركز هذا الإنفاق على الجيوش الالكترونية في المواسم الانتخابية من أجل ضمان البقاء بقوة في معادلة السلطة.
- التظاهر بالعافية : وذلك من خلال بث دعاية قوية ممولة بأموال حكومية وغير حكومية لترويج نجاحات تنموية واستثمارية غير حقيقية.
هذه هي أهم مقومات الإسلاموية في المجتمع، وهي مجرد مسكنات مؤقتة، وهي كذلك لحد الان فقط ما يمكن أن نعتبره أليات مواجهتها للمد الوطني المُطالب بحياة مدنية عصرية خالية من الإملاءات الإسلاموية، ولك أن تتصور إن هذه الإسلاموية الميتة سريرياً ما يُبقيها هو الفساد والتدخلات الخارجية وغياب التنمية الحقيقية، بالإضافة إلى التجهيل المتعمد، ما يعني أن سلبيات إجتماعية وسياسية هي ما تبقي هذا النمط الفكري المتسلط منتعشاً، ولكن مايهون الأمر هو أن هذا النمط ليس مبدعاً خلاقاً، بل يكرر نفسه ما يجعله عرضة للسقوط
السريع في حالة تعريته الواسعة أمام الرأي العام.
لقد قيل للناس بأن الدين لا يتعارض مع الإنسانية، والسعادة الإنسانية الاجتماعية مضمونة عن طريق الرؤية الإسلامية الشرعية، هذا هو هدف نشوء أحزاب إسلامية كحزب الدعوة والحزب الإسلامي، فماذا تحقق من هذا الهدف؟ بصراحة: لا شيء. فالإسلاموية من هذا المنظور لا تختلف عن الأيديولوجيات الأخرى التي تنتقدها، الإسلاموية في هذا السياق كالإيديولوجيا البعثية خصوصاً في أبعادها السياسية والأمنية، ناهيك عن إقصاءاتها الفكرية، والأنكى إذا كان الذي يمارس الإقصاء الفكري الإسلاموي متطرفاً مستخدماً فتاوى العصور الغابرة لتطبيقها في الحاضر الراهن، أو جاهلاً أوصلته الصدفة وزهد الأخرين عن المناصب والمكاسب، فهنا تحدث المجازر الفكرية وتتغلغل في المجتمع والدولة، سيما إذا رافقها إعلام فوضوي يُغذي الشائع المسموم على حساب الناضج المتزن.
إن مراكز القوى الإسلاموية تتحكم بأموال كثيرة حازت عليها من التعاملات الحكومية المشبوهة، ولذلك تنفذ مشروعها بشكل أسرع، وتدافع عن نفسها بطرق معقدة لا يفهمها إلا الخبراء والمفكرين، هي أسرع في عملية بناء القناعات من القوى الوطنية، ومن المستحيل أن تواكب الحالة الوطنية الكم الهائل من المنتجات الإسلاموية الدعائية، لكن ما يخفف الوطأة في هذا المجال هو أن القوى والشخصيات الوطنية بإمكانها كشف شيخوخة القوى الإسلاموية عبر تقوية ثلاثة عوامل مشتركة :
- العامل الأول : الوعي، فهو رأسمال القوى الوطنية، وهو الفصل المميز لها عن بقية الفاعليات السياسية والاجتماعية كما يقول المناطقة.
- العامل الثاني : الخبرة المهنية، فمن خلالها تستطيع القوى الوطنية تفكيك الدعاية الإسلاموية، وتقديم هذه الدعاية على أنها مجرد استهلاكات لتجميل الوضع الإسلاموي المفروض بقوة المال والسلاح والإعلام.
- العامل الثالث : قوة المنطق، وبهذه القوة يتم إنتاج قوة التأثير..
وبهذه العوامل المشتركة سيعادل خبير وطني واحد مئة إسلاموي دوغمائي مدفوع الثمن، ومن خلال برنامج واحد يحتكم إلى لغة العقل ومبني على أسس وطنية حقيقية تُنسف عشرات البرامج الطائفية. وهذا الواقع فقط يحتاج إلى كشف وإعادة تعريف، وهذه مهمة المفكرين المقدسة، هي مهمة لا غنى عنها في طريق بناء الدولة المدنية التي تعطي لكل ذي حق حقه.