
مجتمع اللادولة نعمة أم نقمة ؟!

دعد ديب
29/5/2025، 10:35:33 ص
ارتبط الفهم الغربي لمفهوم الدولة بقدرتها على احتكار العنف في السلطات المسيطرة كشكل متطور من تاريخ المجتمعات حيث يصرح منظروها بأنه لا وجود لدولة بدون تلك الصفة القسرية التي تضبط وتنظم وجود التجمعات البشرية.
ولكن يرى بيير كلاستر أن هذه النظرة قاصرة وغير بريئة فالمجتمعات البدائية عرفت نوعًا من السياسة رغم عدم تأطيرها بوجود دولة ما، وبين من خلال دراساته لأقوام هنود جنوب أمريكا وقبائل الأمازون والقبائل الأفريقية أنها لا تحتكم للعنف في العلاقة بين أفرادها، أي لا يوجد أي صفة قسرية في هذه السياسة. فهذه المجتمعات مجتمعات اللا دولة خلخلت أسس المركزية الغربية المسيطرة في ثنائية الهيمنة والخضوع حيث كانت تؤكد على هذه الثنائية ففي كل زمن كان ثمة سلطة ما، مما يطرح التساؤل هل الخضوع شيء فطري؟ فهذه المجتمعات ليست نسخ عن بعضها وهي لا تتشابه وليست تكرارًا عن بعضها مما يقودنا إلى تمحص التاريخ والحضارة في المجتمعات البدائية ودراسة السلطة عند الشعوب الهمجية وما يسمى مجتمعات اقتصاديات الاكتفاء الذاتي وغياب الكتابة.
فقد وجه كلاستر نقدًا قويًا للنظرية التطورية السائدة في الأوساط الغربية، منطلقًا في كتابه «المجتمع ضد الدولة» من فكرة أن المجتمعات البدائية ليست مجتمعات تجهل السلطة والدولة، بل هي مجتمعات سعت إلى تنظيم حياتها وحياة الأفراد فيها بشكل مختلف بشكل جذري وقد قام بدحض النظرية التي تقول بتضاد التقدم والدولة مع التخلف واللا دولة حيث اعتبره المنظرون الغربيون معيار وجود السلطة أو الدولة مؤشرا للانتقال من البربرية إلى الحضارة والمدنية، تلك التي كرست فكرة لا سياسية هذه المجتمعات كممر للهيمنة الاقتصادية على مقدراتها وثرواتها وتجاهل لثقافات هذه الشعوب ومحاولة إلحاقها بالنموذج الغربي كأسلوب وحيد لتمظهرات السياسة مع العلم أن الزعامات القبلية التي عرفتها شعوب أمريكا الجنوبية الهنود الحمر وشعوب أستراليا وجنوب أفريقيا وحضارة المكسيك العليا والتي لا يلحظ فيها سلطة قسرية قد عرفت شكلًا من أشكال إدارة الحياة الطبيعية ووجود نوع من السلطات غير القسرية فالسياسي هنا حقل يفتقد للعنف وهو بالتالي مستقل عن أي تبعية تراتبية ولا وجود ل ثنائية من نوع ( هيمنة - خضوع ) دأبت الدراسات الغربية على التأكيد على مركزية السلطة سلطة الدولة التي تشرعن احتكار العنف وذلك في فهمها للسلطة والسياسة حيث أن أي سلطة جنينية ينسب تطورها إلى مدى اقترابها من المفهوم الغربي الحالي، وقد عرفت المجتمع البدائي بأنه المجتمع الذي لا يعرف الكتابة ولا يبلغ مرحلة الاكتفاء الذاتي وهو في معركة مستمرة ضد الجوع أو المجتمع الذي لا ينتج فائض، مما يقود أحيانًا إلى الاعتقاد بإن المجتمعات البدائية ليست حقيقية لأنها غير سياسية لذا كان من المفروض تغيير زاوية الرؤية للمجتمعات البدائية فقد رأى كلاستر أن الشعوب التي لا تعرف الكتابة ليست بأقل نضجًا من الشعوب التي تعرفها وتاريخها ليس أقل عمقاً من تاريخ سواها ولكن بالتأكيد أن عنصريتها أقل وليس بالضرورة أنها عاجزة عن حل مشاكلها وتنظيم مجتمعها ولكنها لا ترى فيها ثنائية العلاقة ( القيادة – الخضوع ) فالمجتمعات التي لا يلحظ فيها وجود السلطة السياسية هي مجتمعات تتثبت فيها العلاقات الاجتماعية بما يشبه الرقابة الاجتماعية المباشرة التي تنعت باللا سياسية، فالزعيم المفتقد للسلطة في أمريكا الهندية وفي أغلب المجتمعات الشبيهة يستمد نفوذه من سعيه لإحلال السلام بين رعاياه وقدرته على حل مشاكلهم واستيعاب خلافاتهم كما يلعب الزعيم دور المانح وأنه مصدر العطاء من خيراته وأملاكه الخاصة فالجماعة تلجأ إلى الزعيم في حالة انسداد السبل أمامها وواجبه أن يتكفل بها وإلا ذهبت إلى زعيم آخر وهنا لا يفترق عن باقي القبيلة إلا بالزواج المتعدد وأوامره ليست ملزمة لأحد في حالة السلم ولكنها ملزمة للجميع في حالة الحرب. بالإضافة الى ذلك نلاحظ أهم مسألة وهي انتفاء صفة القسرية عن السلطة، وهو إلى ذلك خطيب مفوه له القدرة على التوجه بخطابه للجميع ويحظى بملكة الإقناع والتأثير على السامعين، كما يسمح له بتعدد الزوجات فمؤسسات الزواج المتنوع تعتمد وتتمحور حول وحجم السلطة التي يحوزها الزعيم، فالزواج الخارجي أي من قبيلة أخرى وسيلة للحليف السياسي، فعلاقات القرابة إضافة إلى الزواج الخارجي تساهم في نتائجها بنزع كل وحدة اجتماعية عن وحدانيتها وفي بلورة نظام يتجاوز كل من عناصره على حدة، وقد وضح كلاستر في دراساته بأننا لا نستطيع تقسيم المجتمعات إلى سلطوية أو غير سلطوية فالسلطة السياسية شمولية وملازمة للاجتماعي ولكن هناك سلطة قسرية وسلطة غير قسرية، السلطة القسرية ليست نموذج السلطة الحقيقية ولكنها التجسيد الواقعي لبعض الحضارات مثل الحضارة الغربية بالتالي لا يمكن اعتبارها مرجعًا للقياس، فالتقسيم الفئوي جاء من فلاسفة اليونان وتبنته الدول الغربية فالحر حر بطبيعته والعبد عبد بطبيعته وفق الفلسفة مما هيأ لفكرة الاستعلاء الحضاري. ينتقد ليفي شتراوس العالم الغربي الذي حاول التأسيس لما يسمى أيدلوجيا التفوق العرقي السوسيو ثقافي لأوربا من خلال فكرة تكريس أسلوب التفكير العقلاني لديهم، نتيجة لانتمائهم العرقي إلى الحضارة اليونانية مقارنة بالعالم البدائي والادعاء بعدم قدرة مختلف الثقافات الموصوفة بالبدائية على إنتاج وخلق ثقافة خاصة بها، فالربط بين التطور الحضاري والمنبت العرقي عار عن الصحة والموضوعية. لا يعني عدم وجود دولة غياب السياسة عن هذه المجتمعات وإنما يستدعي الأمر الفصل بين الفهم السياسي وفهم الدولة وتغيير النظرة التقليدية حسب ما يرى الباحث يحتاج إلى ثورة من نوع ما، فلا يوجد مجتمع بلا سياسة ولكن تلك المجتمعات افتقدت للصفة القسرية للدولة كما افتقدت الكتابة المعبرة عن ذاتها، لذا دحضت تلك التصورات التي وصفتها بأنها مجتمعات جنينية أو مجتمعات ما قبل الكتابة مثل مجتمع هنود الأمازون - قبائل الهند أمريكي. فالإنسان البدائي لا يحتاج إلى فائض للمبادلة ويعيش بشبه اكتفاء ذاتي، ولكنه يفضل راحته على أن يجهد نفسه للحصول على فائض إنتاج وخاصة عندما يعمل الفرد لنفسه فلا استلاب ولا اغتراب، مجتمعات أفرادها مستقلون ولا يوجد طبقات لكون الأفراد لايأبهون أن يكونوا أغنياء وسط فقراء، لذا لم يكن مهمًا لهم إنتاج فائض عن حاجياتهم، مما يقوض فكرة التطور الخطي من المجتمعات الهمجية إلى مجتمعات الدولة لأنها مجتمعات ترفض اللامساواة وترفض أن تستنزف في العمل لإنتاج الفائض التي يؤسس للطبقية التي تقوم عليها فكرة الدولة فهم ليسوا حالة جنينية متأخرة ولكن لها نموذجها الخاص، وهذه المجتمعات لها تقنياتها الخاصة بأعمالها مما يساعدها في تلبية احتياجاتها وفي مواجهة التقلبات الحياتية والطبيعية. وهذا التكريس للنموذج الخطي لتطور المجتمعات جوبه بالكثير من التجارب البشرية المعاكسة فالانتقال الاقتصادي من حالة الصيد إلى الزراعة ظهر ما يعاكسه إذ ثبت أن بعض التجمعات السكانية وبعض القبائل تخلت عن الزراعة وتفرغت للصيد، فالمجتمع البدائي ضيق وهو بالغالب اكتفائي ففي أمريكا الجنوبية كان القسم الأكبر من السكان عبارة عن مجتمعات من المزارعين الحضريين الذين يزرعون أصناف مختلفة من النباتات لذا نستطيع أن نقول إن الزراعة منتشرة في كل مكان وقلة منها تعتمد على الصيد والتقاط الثمار، لا يمكن الحديث عن انقلاب بنيوي في علاقات الإنتاج لأن هذه المجتمعات لا تنتح فائض وفي حال أنتجته فإنها تتخلص منه بحرقه مثلًا، بالإضافة إلى أنها لا تربط بين العمل والملكية بل العمل نشاط إنساني قائم على إشباع الحاجات بالدرجة الأولى فهي ليست عاجزة عن إنتاج دولة ولكنها ضد الدولة وربما شعرت بشكل مبكر بخطر وجود الدولة القسرية عليها، الدولة امر لاحق تتشكل بعد أن تتشكل الطبقات وتكون دائماً بيد الطبقة المهيمنة.
إذن كيف تشكلت الدولة في مجتمعات اللادولة الأمر الذي أدى إلى تدميرها حصل ذلك نتيجة تدخل خارجي اعتبر أصحابه أنهم يطورون هذه الشعوب بالوقت الذي كانوا يدمرونهم وفي الخفاء يسرقون ثرواتهم وأراضيهم. فالمركزية الغربية تعتبر أن كل مجتمع ليس فيه سلطة تحتكر الصفة القسرية بعيد عن مجال التطور وبعيد عن السياسة ولكن وفق كلاستر هنالك فرق واضح بين الجمود الذي يؤدي للانهيار وبين البيئة المستقرة والهادئة، وأن ملازمة السلطة السياسية مع فكرة القوة القسرية هي فكرة خاطئة وتجسد رؤيا استعلائية غربية وهي فكرة عنصرية عرقية يكمن وراءه مطامع استعمارية تتخفى خلف تنظيرات فضفاضة تخفي جشعها ووحشيتها.