
شعار "اميركا أولا"... الرئيس ترامب بين الردع العسكري والدبلوماسية المرنة

مراصد
31/5/2025، 9:32:59 ص
أعاد الرئيس دونالد ترامب صياغة الدور الأميركي العالمي من بوابة التجارة والصفقات، واضعا الاقتصاد في قلب السياسة الخارجية، لكن غياب الوضوح في الأهداف، وتناقض الرسائل، يثيران تساؤلات جدية حول قدرة هذا النهج على إنتاج نفوذ مستدام أو حلول فعلية لأزمات معقدة مثل الملف الإيراني.
قد لا يكون ترامب رئيسا تقليديا، لكن الإستراتيجية التي ينادي بها “أميركا أولا” ليست جديدة وإنما هي أحدى التقاليد الراسخة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة والذي كان يمثل حركة ظهرت في ثلاثينات القرن العشرين تدعو إلى الابتعاد عن الحروب والصراعات التي كانت تشهدها أوروبا ومناطق العالم الأخرى في ذلك الوقت.
︎ "أميركا أولا"
يقول الدبلوماسي الأميركي المخضرم دينيس روس مبعوث السلام السابق في الشرق الأوسط في تحليل نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأميركية إن إستراتيجية “أميركا أولا” لم تكن تعني أن تكون الولايات المتحدة انعزالية وإنما تتصرف بشكل أحادي، على أساس أن التحالفات ستحد من حريتها في العمل، ويضيف روس، إن التجارة محور رئيسي للسياسة الخارجية الأميركية، ليس فقط في التفاعل مع بقية العالم، وإنما أيضا في التدخل العسكري الأميركي الذي استهدف في مرات عديدة حماية التجارة الخارجية الأميركية، سواء لحماية حركة السفن أو فتح أسواق جديدة محتملة، أو الحصول على حصة من أسواق قائمة كانت تسيطر عليها قوى أوروبية في تلك السنوات البعيدة. وفي الوقت نفسه كان الآباء المؤسسون للولايات المتحدة يفرضون قيودا للتدخلات الأميركية، ففي حين كان توماس جيفرسون يؤمن بعالمية القيم الأميركية فإنه كان يعارض السعي لفرضها على الآخرين بالقوة. كما أن جون آدامز كان يرى أن الولايات المتحدة دولة استثنائية بقيمها، لكن محاولة فرض هذه القيم دوليا يمكن أن تهدد هوية الولايات المتحدة وقيمها.
︎ جولة خليجية
جاء ترامب لكي يعيد التجارة والمصالح الاقتصادية إلى قلب السياسة الخارجية الأميركية وهو ما ظهر جليا باختياره لدول الخليج العربي الغنية كي تكون وجهته في أول جولة خارجية له. فلم تكن تلك الجولة تتعلق بالأمن والجيوستراتيجية، بل كانت تتعلق بصفقات تجارية ضخمة تخدم الشركات الأميركية ومصالحها الاستثمارية في قطاعات رئيسية كالطاقة والنقل والسلاح والذكاء الاصطناعي.
يمكن لترامب الادعاء بأن جولته الخليجية قد حققت ليس فقط مكاسب اقتصادية، وإنما مكاسب سياسية بتعميق العلاقات بين الولايات المتحدة ودول الخليج، خاصة في ضوء صفقات الأسلحة الضخمة والاتفاقيات الاستثمارية الضخمة التي تم توقيعها في قطاعات الذكاء الاصطناعي وهو ما سيقلص المجالات التي يمكن للصين أن تنافس الولايات المتحدة فيها بهذه المنطقة. بعبارة أخرى فإن نهج “التجارة أولا” الذي يتبناه ترامب يمكن أن يحقق مكاسب سياسية للولايات المتحدة في شبه الجزيرة العربية. فمبيعات السلاح الأميركي الضخمة إلى السعودية والإمارات العربية المتحدة ستعزز الروابط بين جيوش الدولتين والجيش الأميركي، في ضوء استمرار حاجة الدولتين إلى قطع الغيار وخدمات الدعم الفني والصيانة لتلك الأسلحة من الولايات المتحدة. ومع ذلك يطرح دينيس روس الذي خدم في العديد من الإدارات الأميركية تساؤلا مهما هو: هل يجيد ترامب إدارة شؤون الدولة؟ ويقول إنه بالتأكيد يفهم معنى وأهمية النفوذ، لكن الأهم من ذلك هو مدى التوافق بين الوسائل والغايات، وهذا يحتاج إلى وضوح تلك الغايات. أن إستراتيجية "أميركا أولا" لم تكن تعني أن تكون الولايات المتحدة انعزالية وإنما تتصرف بشكل أحادي، على أساس أن التحالفات ستحد من حريتها في العمل، ويتابع روس أن التوافق بين وسائل ترامب وأهدافه غير واضح، مشيرا إلى الرسوم الجمركية على سبيل المثال، والتي يرى أنها وسيلة وليست غاية.
︎ اهداف محتملة
يبدو أن لدى ترامب ثلاثة أهداف محتملة وهي تصحيح شروط التبادل التجاري وزيادة فرص الوصول الأميركي إلى الأسواق، والثاني هو إعادة هيكلة اقتصاد الولايات المتحدة واستعادة التصنيع، وزيادة إيرادات الخزانة الأميركية، وأخيرا سد العجز في الموازنة وخفض الضرائب. وفي حين يرجح روس تحقيق الهدفين الأول والثاني، فإن الهدف الثالث الذي يعكس أجندة شعبوية اقتصادية غير قابل للتحقيق على الأرجح. وفي الوقت نفسه فإن حقيقة أن الرئيس ترامب يطالب في البداية بمطالب قصوى ثم يتراجع عنها بغض النظر عن كلماته، تشير الى أهدافه الحقيقية هي إعادة التوازن في شروط التبادل التجاري وتوليد الإيرادات، ويعتقد ان ترامب قد يحقق إنجازا ملموسا في كلا الهدفين. وإذا نجح في تحقيق مكاسب كبيرة فإنها ستبرر الاضطراب الذي يخلقه ترامب. ويرجح دينيس روس أن يؤثر عدم وضوح الأهداف على رغبة ترامب في إبرام صفقة مع الإيرانيين بشأن برنامجهم النووي. فالرئيس يقول إن إيران لا يمكنها امتلاك سلاح نووي، لكنه لم يحدد المطلوب بالضبط لضمان تحقيق هذه النتيجة، ويرى ان كانت التجارة هي هدف ترامب الأول، فإن إنهاء الحروب وليس إشعالها هو هدفه الثاني المعلن.
︎ غموض استراتيجي
يتبنى الرئيس ترامب نهج "الغموض الاستراتيجي" في سياسته الخارجية، لا سيما تجاه قضايا الشرق الأوسط، في محاولة لإعادة تشكيل معادلات القوة الإقليمية وتعزيز النفوذ الأميركي ضمن بيئة دولية معقدة ومتشعبة. وتميزت سياسة ترامب خلال الـ 100 يوم الأولى من ولايته الثانية بالسعي إلى تحقيق توازن دقيق بين الردع العسكري أو الحلول الخشنة، والدبلوماسية المرنة، واضعاً نصب عينيه هدفين متلازمين: تأكيد الهيمنة الأميركية على الساحة الإقليمية، وإدارة الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة. أن نجاح استراتيجية "الغموض الاستراتيجي" يرتبط بشكل وثيق بمدى مصداقية وثبات الرسائل الأميركية في أعين الأطراف الفاعلة في المنطقة. فبينما يواجه النظام الإقليمي استقطاباً متوزعا بين معسكرات متنازعة، تصبح قدرة واشنطن على فرض قواعد اللعبة مرهونة بتوازن دقيق بين الحزم والمرونة، ونصب أعينها على كلٍ من الصين وروسيا اللتين تنافسان واشنطن بقوة في المنطقة. الى ذلك اعتمد ترامب في إدارة علاقات الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط على عقلية "رجل الأعمال" وصانع الصفقات، واضعاً الاستثمارات والفرص الاقتصادية في قلب تحركاته الدبلوماسية. إميلي ميليكين، الباحثة في المجلس الأطلسي، المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط، تشير في حديثها الى CNBC عربية، إلى أنه "مع أن نهج إدارة ترامب تجاه الشرق الأوسط قد يبدو متقلباً، إلا أنه كان متسقاً إلى حد كبير مع ولايته الأولى؛ ذلك أنه جمع بين التواصل الدبلوماسي والمواقف العدوانية". من هنا تسعى إدارة ترامب إلى إبراز قوتها وتأكيد ردعها؛ خاصةً ضد إيران، مع تجنب التدخل الأميركي واسع النطاق. وقد واصلت إدارته تأكيد رغبتها في توسيع نطاق اتفاقيات إبراهام والدفع نحو التكامل الاقتصادي الإقليمي، مع اتخاذ موقف متشدد ضد طهران وشبكاتها من وكلائها وحلفائها، وفق ميليكين.
وتؤشر الباحثة في معرض حديثها مع CNBC عربية، أبرز التحديات الرئيسية التي تواجه سياسة ترامب في الشرق الأوسط في ولايته الثانية، وكيف تعكس رسائله المتضاربة بين التفاوض والتهديد، وتلك المتغيرات السياسية داخل الولايات المتحدة ومصالحها الاستراتيجية الأوسع في المنطقة، وتعتبر أن التحدي الرئيسي لسياسة ترامب في المنطقة يتمثل في المنافسة المتزايدة من روسيا والصين، وتقول "هذا التباين بين أدوات ترامب التفاوضية والتصعيدية في منطقة الشرق الأوسط يأتي كجزء من فلسفة سياسته الخارجية الأوسع". وتضيف "يُمكن النظر إلى عقيدة الرئيس ترامب في السياسة الخارجية في المراحل الأولى من ولايته الثانية من خلال عاملين رئيسيتين: الغموض الاستراتيجي والدبلوماسية التبادلية، ويتشابه النهجان مع ولايته الأولى، لكنهما أكثر وضوحاً في بداية ولايته الثانية، وتنطبقان بالتساوي على الأصدقاء والأعداء". ولطالما كان الغموض الاستراتيجي سمةً مميزةً لأسلوب ترامب في السياسة الخارجية، من خلال إطلاق مبادرات سلمية (مثل استئناف المحادثات الدبلوماسية مع إيران للتوصل إلى اتفاق سلام نووي مُوثّق)، مع الدفع في الوقت نفسه نحو "أقصى قدر من الضغط".
︎ مزايا تفاوضية
كما يسعى ترامب إلى الحفاظ على المرونة وعدم القدرة على التنبؤ لتعظيم نفوذ الولايات المتحدة في المفاوضات، وهو مبدأ متجذر في استراتيجيات إبرام الصفقات التجارية، حيث يمكن للغموض أن يُحقق مزايا تفاوضية. وهو ما يؤكده الاستاذ المساعد في إدارة الأعمال الدولية في الجامعة الأميركية، باباك حافظي، لدى حديثه مع CNBC عربية، مشيراً إلى أن "سياسة الرئيس ترامب تعكس نظرة زبائنية مكثفة للعلاقات الدولية، حيث تتعامل مع العلاقات الدبلوماسية على أنها مفاوضات حول مصالح محددة أكثر منها تحالفات استراتيجية طويلة الأجل". وفي المقابل يرغب ترامب في الوصول إلى اتفاق. فإذا كانت التجارة هي هدفه الأول، فإن إنهاء الحروب وليس إشعالها هو هدفه الثاني المعلن ، ويقول روس إن غياب الأهداف الواضحة ليس قاصرا على ترامب. فغالبا ما افتقر الرؤساء الديمقراطيون والجمهوريون، على حد سواء، إلى أهداف واضحة لأسباب متعددة: فقد فشلوا في دراسة أهدافهم بدقة (باراك أوباما في ليبيا)، أو لم يفهموا معناها على المدى الطويل (جورج بوش الابن في العراق)، أو تبنوها لأسباب سياسية (ليندون جونسون في فيتنام)، أو قبلوها شديدة العمومية ما جعل تحقيقها صعبا، وكما هو الحال في كل إدارة، يحتاج الرئيس إلى من حوله للمساعدة في ضمان توافق الأهداف مع المصالح الأميركية وقابليتها للتنفيذ. وأخيرا فإن هناك عاملا آخر يمكن أن يحول دون قدرة ترامب على إدارة شؤون الدولة بنجاح، وهو حرصه الغريزي على رفع سقف المطالب إلى حده الأقصى، ثم التراجع عنه بعد ذلك. فمثل هذا النهج يشجع الأطراف الأخرى على تحدي مطالب ترامب والعمل على تقليصها على أساس أنه لا يتمسك بما يقدمه من مطالب في البداية، وهو ما يفرض تحديات بالغة الصعوبة على السياسة الخارجية الأميركية في جميع المجالات.