
أول متحف في العالم... متحف الأميرة البابلية إينيغالدي - نانا

مراصد
2/6/2025، 9:43:11 ص
قبل حوالي 2500 عام، وفي ذروة مجد الإمبراطورية البابلية الحديثة (626-539 ق.م) قامت أميرة تدعى إينيغالدي-نانا، تعيش فيما يسمى الآن العراق الحديث، بجمع عدد من القطع الأثرية بعناية، بما في ذلك تمثال، وحجر حدود (يُعرف باسم "كودورو" ويستخدم لترسيم الملكيات)، ورأس صولجان (رمز للسلطة والقوة). وهذه المقتنيات،
التي تظهر عليها علامات الحفظ الواضحة، يعود تاريخها إلى فترات تمتد من حوالي 2100 ق.م إلى 600 ق.م. ويُعتقد عمومًا أن هذه المجموعة، التي تم تنظيمها وعرضها بشكل مقصود، كانت بمثابة أول "متحف" معروف في العالم. تعد الأميرة إينيغالدي-نانا من بين أبرز الشخصيات التاريخية التي تركت بصماتها على حضارة بلاد ما بين النهرين. هي ابنة الملك نبونيد آخر ملوك الإمبراطورية البابلية الحديثة، وشغلت منصب الكاهنة العليا في معبد آلهة القمر "سين" في مدينة أور. وكان اهتمامها العميق بالآثار والتاريخ يبرز من خلال عملها على جمع قطع أثرية ترمز إلى حضارات بلاد ما بين النهرين القديمة، ماجعل من متحفها أول متحف معروف في العالم، وأحد أقدم المعارض الثقافية التي سجلها التاريخ.
︎ الاكتشاف
اكتشف عالم الاثار ليونارد وولي (Woolley) عام (1925) مجموعة غريبة من القطع الأثرية أثناء تنقيبات أور، وضمن غرفة تعرف باسم قصر الكاهنة العليا بيل-شالتي-نانار، وهذه الغرفة ضمن قصر يشترك ببعض مميزات التصميم مع قصر الجنوبي في بابل، ولكن على نطاق أصغر، وشيد على قطعة أرض شبه منحرفة بجانب مرفأ أور الشمالي، وعلى بعد حوالي (150) متر (ما يعادل 490 قدم) إلى الجنوب الشرقي من زقورة أور الشهيرة، وفي هذا القصر العديد من الممرات والقاعات المختلفة الحجم، واعتبر هذا الكشف بانه أقدم متحف في العالم، لان ما عثر عليه يجعل الأميرة البابلية إينيجالدي ومجموعتها الأثرية رائعة جدا.
︎ امينة المتحف
كانت الاميرة (بيل-شالتي-نانار) أو بيل شالتي-نانا أو إينيجالدي الابنة المفضلة للملك نبونائيد (باليوناني نابونيدوس) (556-539) ق.م ومعنى اسمه (مديح نابو)، وهو آخر ملوك دولة بابل الحديثة، وقد وصف من قبل المؤرخين بأنه مرمم أثري قديم، وجامع للقطع الأثرية القديمة، وقد علم ابنته أن تهتم بالتحف القديمة، ولذا يعرف والدها بكونه أول عالم آثار، ويبدو أن ابنته بيل-شالتي-نانا كانت المفضلة لديه من بين ابنائه فهو الذي أضاف اسم (نانا) إلى اسمها لأن اسم بيل (Bêl) تعني (السيد) والمؤنث (بيليت) وتعني (السيدة) والمقصود باسم بيل الإله مردوخ و(شالتي) تعني القوة بمعنى (الإله مردوخ الاقوى)، و أسم (نانا) إضافة متأخرة، على العموم فأن أنشاء المتحف كان بدعم وتشجيع من والدها الملك البابلي. من الصعب أن نعرف من أين جاء الملك البابلي اهتمامه بالماضي، ولكن قد يكون له علاقة بأصوله المتواضعة فهو ضابط في جيش نبوخذنصر الثاني، ومن أقارب بيلشاصر ملك بابل، وجلس على العرش بعد الإطاحة بسلفة لباشي-مردوخ (556) ق.م، وكان يفضل الإله سين أكثر من مردوخ إله بابل وكهنته الذين لا تتوقف تدخلاتهم في شؤون الدولة، وأيضا كان متأثرا بوالدته (لتي احتلت منصب الكاهنة العظمى لمعبد سين في حران، وكانت في ذلك الوقت متوفاة (توفيت عن عمر (104) سنة وهو امر نادر في تلك الحقبة الزمنية)، ومن التقاليد القديمة في بلاد الرافدين تعيين الملوك بناتهم بمنصب كاهنة عظمى (انتو) في معبد سين في أور، وتم تعيين إينيجالدي-نانا بهذا المنصب المقدس، وبذلك انيطت بها ثلاث وظائف : الأولى الكاهنة العظمى (entu) للإله القمر (نانا) في أور وكانت تسمى (كاهنة الإله سين)، وثانيها أسست متحفها وأصبحت أمينة المتحف في حوالي (530) ق.م، وثالثا مديرة مدرسة للكاهنات الشابات وقد تأسست تلك المدرسة قبل أكثر من ثمانية قرون قبل توليها إدارتها. وأثناء عملية التنقيب في أور، اكتشف (Woolley) غرفة تم بناؤها لصالح بيل-شالتي-نانار حوالي (550) ق.م، تعرف الغرفة باسم الكاهنة العليا إينيجالدي-نانا، وكانت أرض القصر التي ضمت المتحف موجودة في المبنى القديم والمشار إليه باسم كيبار (E-Gig-Par) ، والذي كان يضم مساكنها، وهو مكان مقدس يمنع منعا باتا دخول الرجال، واعيد بناؤه ولعدة مرات، وأشار الملك البابلي بقوله: (أنا بنيت بيت جديد لـ(بيل-شالتي-نانا) ابنتي كاهنة سين، أنا قدمت ابنتي إلى الإله سين)، وفي نص آخر (لعل بيل-شالتي-ننار ابنتي، محبوبة قلبي، تكون قوية أمامهم، وتسود كلمتها).
︎ محتويات المتحف
في بداية القرن السادس قبل الميلاد، بدأت إينيغالدي-نانا في جمع وتنسيق قطع أثرية مختلفة في متحفها الذي تم عرضه في مدينة أور. كانت هذه القطع عبارة عن تماثيل صغيرة، ورؤوس صولجان، وأحجار حدودية (كودورو)، بالإضافة إلى العديد من القطع الأخرى التي تعكس الحرفية الرفيعة والتطور الثقافي في تلك الحقبة. وكان لهذه المقتنيات الرمزية أبعاد ثقافية ودينية عميقة. كانت بعض القطع تظهر تاريخ الحضارات السومرية، الأكدية، البابلية، والآشورية، ما يبرز التطور التدريجي لهذه الحضارات خلال الألفية الثالثة وحتى السادسة قبل الميلاد. إحدى القطع الأكثر شهرة التي تم عرضها في المتحف كانت رأس صولجان مصنوع من الجرانيت، وهو قطعة تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد. هذا الصولجان كان رمزًا للسلطة الملكية والقوة، وعادة ما كان يستخدم في المراسيم الدينية والحكومية في تلك الفترات. كان عرض هذه القطع يهدف إلى تعليم الزوار العادات والتقاليد التي كانت سائدة في تلك العصور، وكذلك تقديم لمحة عن أنماط القيادة والطقوس. من القطع الأخرى التي تم عرضها في المتحف كانت الأحجار الحدودية (كودورو)، وهي أحجار نقشت عليها النصوص القانونية والملكية لترسيم الحدود. وقد كان استخدام هذه الأحجار شائعًا في الفترة البابلية الحديثة لضمان حقوق الملكية للأفراد وللدولة. إضافة إلى ذلك، كانت التماثيل الدينية التي تم جمعها تشير إلى عبادة الآلهة في تلك الفترة، وتعكس الروحانية التي كانت سائدة في المجتمعات القديمة. كان المتحف يعرض ملامح من الحياة اليومية في بلاد ما بين النهرين، بما في ذلك الأدوات الزراعية التي استخدمها الفلاحون، والأدوات الحربية التي استخدمها الجنود في الحروب التي خاضتها الإمبراطورية. لكن الأهم من ذلك كان الاهتمام الذي أولته إينيغالدي-نانا للقطع الكتابية مثل الألواح الطينية المنقوشة بالنظام المسماري، وهو أول نظام كتابة معروف في التاريخ.
إضافة إلى ذلك، كانت هناك القطع الفنية التي تمثل آلهة وملوك تلك الفترة، وهي قطع فنية تمثل دينًا وحياة اجتماعية مزدهرة، وقد تم استخدامها في طقوس العبادة والاحتفالات الملكية. واكتشاف هذه القطع يمثل بالنسبة للباحثين نافذة لفهم الطريقة التي تعامل بها سكان تلك الحقبة مع آلهتهم وحكامهم.
︎ وجهات نظر
اشارت لويز برايك، الباحثة في جامعة سيدني والمتخصصة في التاريخ القديم وعلم الآثار، إلى أن متحف إينيغالدي-نانا لم يكن مجرد معرض لأشياء قديمة، بل كان أداة تعليمية وثقافية ذات طابع موسوعي. ففي رأي برايك، كان المتحف بمثابة شهادة على التفوق البابلي في مجال التوثيق التاريخي وحفظ الذاكرة الثقافية. لم يكن الهدف من جمع هذه القطع هو مجرد العرض، بل كان يهدف أيضًا إلى تعليم الأجيال القادمة عن تاريخ أجدادهم وتقديم هذه القطع كأدوات لفهم تطور الحضارات في المنطقة. وأضافت برايك أن المتحف كان بمثابة رمز للهوية البابلية في فترة شهدت بداية تراجع الإمبراطورية. من خلال جمع هذه القطع وتقديمها للزوار، كانت إينيغالدي-نانا تسعى لإبراز فخر بلاد ما بين النهرين بأصولها الحضارية. من وجهة نظر عالمة الآشوريات موضي الرشيد، المقيمة في جامعة أكسفورد، فإن أهمية المتحف لا تكمن فقط في عرض القطع الأثرية، بل في كونه يمثل الأسس الأولى لفهم تاريخ الإنسان. وفي كتابها الذي حمل عنوان "بين نهرين: بلاد ما بين النهرين القديمة وولادة التاريخ"، تشير الرشيد إلى أن المتحف كان بمثابة أداة معرفية، حيث عمل على ترسيخ معرفة واسعة عن الثقافات القديمة ودورها في تشكيل المبادئ الأساسية للحضارات اللاحقة. وأكدت موضي أن هذه القطع الأثرية تعد بمثابة إرث عالمي، تمثل الحضارة الإنسانية القديمة، وقد ساهمت في تطوير فهمنا حول تطور الأنظمة السياسية، والثقافة المادية، وتفاعل الإنسان مع بيئته الطبيعية والاجتماعية. ولفتت إلى أن جزءًا من أهمية المتحف يكمن في أنه كان يقدم رؤية شاملة لمختلف جوانب الحياة في بلاد ما بين النهرين، بدءًا من الدين، وصولاً إلى القوانين والسياسة.
︎ التفسير الأثاري
المتحف الذي أسسته إينيغالدي-نانا يمثل قيمة ثقافية عظيمة لمجتمعاتنا الحديثة. فهو يوفر دليلًا تاريخيًا حقيقيًا على مدى تطور المعرفة والفكر الإنساني عبر الزمن، ويعكس القدرات الفنية والفكرية التي كانت سائدة في بلاد ما بين النهرين. كما أن المتحف يعكس التكامل بين الفنون والعلم في تلك الحقبة، حيث كان يتم جمع القطع الأثرية التي تحمل معانٍ ثقافية، بالإضافة إلى تفاعلها مع الممارسات الاجتماعية. وفي السياق ذاته، فإن محتويات المتحف كانت تمثل حجر الزاوية لفهم الأنظمة الاجتماعية في تلك الحقبة، إذ كانت القطع الأثرية بمثابة أدوات لتعزيز الانتماء الوطني والديني والروحي، وكانت تجسد فكر الأجداد حول العالم الطبيعي وما وراءه. يمكن اعتبار متحف الأميرة إينيغالدي-نانا حجر الزاوية لفهم أولى محاولات البشر لحفظ التاريخ وتوثيقه عبر الزمن. إذ يعكس المتحف ليس فقط الذوق الفني للمجتمع البابلي، بل وأيضًا الرغبة في فهم الماضي وحمايته للأجيال القادمة. عبر القطع الأثرية التي ضمها المتحف، تمكنا من الوصول إلى صورة حية عن حضارة بلاد ما بين النهرين وأثرها العميق في تاريخ البشرية. من خلال هذا المتحف، تمكنت إينيغالدي-نانا من نقل صورة عن العظمة الثقافية والحضارية لبلاد ما بين النهرين، لتصبح هذه القطع الأثرية اليوم شاهدة حية على ماضي الإنسان الذي أرسى دعائم الحضارة.