
جيل الهاتف الذكي

رياض الفرطوسي
2/6/2025، 9:43:17 ص
لم يعد سؤالنا اليوم عن الهواتف الذكية محصوراً في: ما الذي تضيفه لحياتنا؟ بل أصبح، وبقوة الحيرة والقلق، سؤالًا من طراز: ما الذي تأخذه منا؟ خاصة حين يكون المعنيّ بهذا السؤال هو الجيل الجديد، الذي لم يعرف العالم قبل أن تضج الشاشات بألوانها وتفاصيلها، ولم يتعلم النطق قبل أن يلتقط صوراً، ولم يتعلم الإصغاء قبل أن يحدق في الضوء الأزرق.
ففي كل بيت، وكل شارع، وكل مطعم، ومقهى، ومقعد دراسي، طفل أو مراهق غارق في عالمه الرقمي الخاص، محاط بسماعاته كمن ينسحب من العالم الحيّ إلى عالمٍ بديل، أكثر استجابة، وأقل صداماً. وما يبدو على السطح مجرد استهلاك عادي للتقنية، يخبئ تحت جلده ظاهرة ذات طابع سرطاني، تسري في الجسد الاجتماعي بلا مقاومة تُذكر، في غفلة من مؤسسات التربية والتعليم، وفي خيانة ضمنية من الآباء الذين يرمون الهواتف في أحضان أطفالهم، هرباً من صداع الأسئلة ومشقة التواصل. الأرقام، وهي دائماً لا تكذب، تشير إلى تحول حاد في نمط التنشئة. فبحسب تقرير منظمة "كومون سينس ميديا" (Common Sense Media) لعام 2023، فإن 42% من الأطفال بعمر العاشرة يملكون هواتف ذكية، وترتفع النسبة إلى 91% لدى من هم في عمر الرابعة عشرة. أرقام تصرخ في وجه العالم بأن جيلاً كاملاً يتربى، لا على يد معلم أو أب أو أم، بل على يد شاشة. جيل لا يعرف الملل لأنه لم يذق الصمت، ولا يعرف التركيز لأنه لم يجرب الانفصال عن التنبيهات المتلاحقة.
وفي العراق، بكل ما فيه من تيارات وأحزاب وقوى اجتماعية متشابكة، ليس بمنأى عن هذا الطوفان، بل إن ما يزيد الطين بلّة، أن الموبايلات تنتشر فيه بأرقام تفوق دولًا صناعية كبرى، كما أشارت تقارير وزارة الاتصالات العراقية، والتي تفيد بأن عدد خطوط الهاتف المحمول النشطة تجاوز 41 مليون خط في بلد لا يتجاوز عدد سكانه 43 مليون نسمة. في بلد لا يزال ومنذ تغير المشهد السياسي الحاكم عام 2003 في مرحلة إعادة بناء جديدة على مستوى التعليم والثقافة، تصبح هذه الأجهزة قوة طاغية لا تواجهها بنية مناهضة، بل تتغلغل في فراغٍ تربوي مقلق، وتصبح هي المرجع، والمعلم، والمربي، وأحياناً الحاكم غير المعلن. الطبيب النفسي الأمريكي كليفورد سوسمان (Clifford Sussman) يشير إلى أن الاستخدام المكثف للوسائط الرقمية يحفّز إفراز الدوبامين، مما يؤدي إلى نوع من الإدمان العصبي يشبه إلى حد كبير الإدمان على المخدرات أو القمار. غير أن الفرق الحاسم هو أن الفص الجبهي الأمامي في دماغ الطفل أو المراهق، المسؤول عن كبح السلوك وضبطه، لم يكتمل نموه بعد، ما يجعل الانفكاك عن هذه الأجهزة معركة غير متكافئة.
وعندما سُئل البروفيسور الأمريكي "جوناثان هايدت" (Jonathan Haidt) عن العلاقة بين الهواتف الذكية والاضطرابات النفسية لدى المراهقين، أشار في كتابه The Anxious" Generation" إلى وجود ارتباط وثيق بين بداية انتشار الهواتف الذكية في أيدي الأطفال وبين تزايد معدلات القلق والاكتئاب. ووفقاً لمسح أجرته الأكاديمية الأمريكية لطب النوم (AASM)، فإن أكثر من 93% من المراهقين في الجيل Z يظلون مستيقظين بعد أوقات نومهم لتصفح وسائل التواصل الاجتماعي، مما يسبب حرماناً مزمناً من النوم يؤثر سلباً على المزاج والذاكرة والتعلم. إن النوم ليس ترفاً، بل هو أساس للصحة النفسية والعقلية، والنقص الحاد فيه يؤسس لاضطرابات جسدية وعقلية مزمنة، تبدأ من ضعف التركيز وتنتهي بالاكتئاب والقلق، وربما ما هو أكثر. والمشكلة أن الهاتف لا يسرق النوم فقط، بل يسرق ما هو أعمق: مهارات التفاعل الاجتماعي، والقدرة على الإصغاء، وتحمل الانتظار، والتفكير الطويل.
الجيل الذي نشأ على تطبيقات مثل تيك توك، وسناب شات، وإنستغرام، لا يتعامل مع العالم كحقل تجربة أو فضاء حوار، بل كمنصة عرض للذات، وتلقي فوري للردود. لا وقت فيه للتأمل أو القراءة أو الكتابة. وحين يدخل هذا الجيل إلى سوق العمل، كما حدث فعلًا مع كثير من أفراد الجيل Z، يجد نفسه عاجزاً عن بناء علاقات مهنية، أو طلب المساعدة، أو التواصل اللفظي الفعّال. دراسة حديثة أجرتها شركة Deloitte في 2024 أظهرت أن 41% من مديري الموارد البشرية في الولايات المتحدة يعتبرون أن خريجي الجامعات الجدد يفتقرون للمهارات الاجتماعية اللازمة. وفي العراق، حيث تراجعت مؤشرات القراءة وضعف واضح في مهارات التعبير الشفهي والكتابي في المدارس والجامعات، تصبح هذه الهواتف أداة إضافية لنحت جيل مشوش، سريع الانفعال، هشّ الهوية، وقليل المناعة الثقافية. كيف ننتظر من شابٍ أن ينخرط في الشأن العام، أو يشارك في نقاش فكري، وهو بالكاد يستطيع الاستماع لدقيقة كاملة دون أن يشعر بالضجر؟ إننا لا ننكر فضل التكنولوجيا في تسهيل الوصول إلى المعلومة، ولا نرغب في العودة إلى الوراء، لكنّ ما نحتاجه الآن ليس المزيد من الشاشات، بل المزيد من النقد الذاتي. نحتاج إلى منظومة تربوية تعيد الاعتبار للصمت، للكتاب، للوجه البشري، للزمن الطويل الذي تتكوّن فيه الأفكار لا الذي يستهلك فيه المحتوى. وها هي دول كفرنسا والسويد وكندا وهولندا بدأت بتقييد استخدام الهواتف الذكية داخل المدارس، في محاولات جادة لفهم هذا التوحش التكنولوجي واحتوائه، بعد أن أشارت أبحاث، منها دراسة نشرتها مجلة "Lancet" في 2023، إلى أن تقليل استخدام الهواتف الذكية في المدارس يُحسّن الأداء الأكاديمي بنسبة تصل إلى 12%، ويقلل من مستويات القلق لدى الطلاب. فهل نتعلم؟ هل نتوقف عن توزيع الأجهزة على الأطفال كما نوزع الحلوى؟ هل نعيد التفكير في علاقتنا بها؟ ليس لأن الهاتف في ذاته لعنة، بل لأننا سلمناه مفاتيح العقل قبل أن نحصّنه بالوعي. هذه ليست دعوة للرفض الأعمى، بل صرخة للوعي. فالجيل الذي رباه الهاتف، يحتاج منا اليوم، وبكل مسؤولية، أن نكون نحن من يربيه، لا أن نتركه يُسلم مصيره لشاشة. فالأوطان لا تبنى بإعجابات على فيسبوك، ولا بالتعليق على صور، بل بعقول قرأت، وقلوب تفاعلت، وأجيال تربّت على أن الإنسان، لا الآلة، هو البداية والنهاية.