
"نظرية القوة" في السياسة الدولية

غنوة فضة
3/6/2025، 10:27:18 ص
في كتابه "سياسة القوة" للمؤرخ والباحث البريطاني مارتن وايت (1913-1972) نطلع على بحث كاشف حول مسألة العلاقات الدولية، بعيدا عن العناية بمعالجة عناصر التغيير فيها.
لذا من الطبيعي أن يجد القارئ في مطلع البحث وصفاً تقليدياً للنظم السياسية الدولية، لاسيما تلك التي ظهرت في أوربا في بدايات العصور الحديثة، وامتدت إلى بقية القارات الأخرى. إلى جانب تكريسه جزءاً كبيراً من جهده البحثي في تعريف جوهر الملامح الأساسية والدائمة لخريطة السياسة الدولية بما يوفر وعياً للمناظرة الدائرة حول تـأثير التكنولوجيا العسكرية في السياسة الدولية؛ لنطلع على مسألة الصراع بين الدول من حيث اشتمالُه على فصول عن المجتمع الدولي، وعن الحرب التي تأخذ من مفهوم القوة المتوسطة حدثاً مؤثراً. واللافت في الكتاب الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2024) تفكيكهُ الحدث الأول الذي أدى إلى بروز سياسة القوة بوصفها "سياسة دولة" وذلك من لحظة تحلل عالم القرون الوسطى المسيحي، وولادة الدولة الحديثة ذات السيادة، والانتقال من حالة السلطة القبلية والقومية التي حكمت أوربا إلى شكلها الحديث البعيد عن حال الاقتتال. إذ يذكر أن أرفعَ مستبدَين - البابا والإمبراطور - عمدا إلى إشعال حرب المئتي عام من أجل التفوق (1076- 1268) إذ حطم ذلك الصراع توازن القوى في مجتمع القرون الوسطى وأفضى إلى ثورة في السياسة بلغت ذروتها في حركة الإصلاح. ذلك الانتقال من الثورة إلى الولاء، أي ولاء الرجل في العصور الوسطى ولاء عرفياً لسيده الإقطاعي المباشر، وطاعته الدينية العرفية للكنيسة في ظل البابا، تعرض حسب وايت مع الوقت إلى عمليات كبح سلطوي من قبل الملوك الذين تحدوا البابا وبارونات الإقطاع. ليصبح الملك هو الحامي والمناهض للنظام الكنسي الفاسد، لتتسع دائرة الولاء الداخلي لدى الرجل العادي وتتقلص دائرة الولاء الخارجي. وهكذا يحدد مارتن وايت اللحظة التي خرجت عبرها الدولة الحديثة إلى الوجود، حين برزت القوة في شكل حديث تمثل بدولةٍ ذات سيادة في مظهرها الخارجي وتعرّف عن نفسها بأنها الولاء المطلق الذي يكافَحُ من أجل بقائه.
ويضعنا الكتاب أمام مسألة الأخلاق في مواجهة القوة فيما يتعلق بمسألة بقاء الدولة. إذ يعبر عن التماسك الأخلاقي لدى القوى من بوابة الأمة من حيث أقدم دلالاتها كشعبٍ يُفترضُ أن له أصلاً مشتركاً ومنظماً من قبل حكومة عامة. ويشير هنا إلى مبدأ الواقعية السياسية التي لا بد من الاعتراف بها، ويتخذ من بسمارك (1815-1898) مثالاً من حيث كونه قائداً أبغضه الرجال بسبب واقعيته السياسية بينما كان ما يبغضونه هو الواقع لا أكثر: "لن يصار إلى تسوية المشكلات الكبرى في عصرنا عن طريق القرارات والتصويت بالأغلبية، وإنما تسوى تلك المسائل عن طريق الدم والحديد.." من خطابه هنا يحدد الباحث بياناً جلياً للواقع الذي سوى مسألة السيطرة النازية على أوربا. فالجيوش وليس القرارات هي التي كانت صاحبة الفضل في ذلك. وهو ما يبتعد بنا كل البعد عن مسألة المبادئ والمعتقدات غير الفعالة؛ تلك التي لا تكون فعالة إلا إذا تُرجمت إلى دم وحديد وليس إلى مجرد قراراتٍ وأصوات. هكذا لا يقتصر معنى عبارة "سياسة القوة" بحسب استخدامها الشائع على العلاقات بين القوى المستقلة، بل يتعداه إلى أمر أكبر يصفه بكونه "أكثر شرّاً" ويتضمن معنى سياسة القوة المسلحة وإدارة العلاقات الدولية عن طريق القوة أو التهديد باستخدامها من دون مراعاة للحق والعدل. وهو ما يعني ضمنياً عدم التزام الدولة في الشؤون العامة بالأخلاقيات التي تأخذ بأن مصلحة الدولة عليا، وتسوغ التصرفات المتجردة من المبادئ التي تلجأ الدولة إليها دفاعاً عن المصلحة العامة، إلا أن وايت يشير إلى أنه من الحماقة أن نفترض بكون رجال الدولة لا تحركهم اعتباراتُ الحق والعدل، وأن العلاقات الدولية محكومة بالقوة على وجه الحصر؛ إلا أنه من الحكمة الاعتراف بأن سياسة القوة تقترب من معناها غير الأخلاقي، وهو ما يدفع نحو تقييم المسألة الأخلاقية التي سلكتها الدول ما بعد الحرب العالمية الأولى. يؤكد وايت أن التمييز الوحيد في التعامل الدبلوماسي الطبيعي هو التمييز الواقعي بين القوى الكبرى والقوى الأخرى. وقد كانت لفظة "القوى الكبرى" حاضرة في الكتابات السياسية إلى جانب رصده ميل تلك القوى إلى التعاون فيما بينها بوصفها نوعاً من مجلس إدارة أو فرض إرادة على المنظومة الدولية من أجل تسويغ أعمالهم بوصفها تعزيز للسلام والأمن. وقد عززت الحرب العالمية الثانية البروز الدبلوماسي والقانوني للقوى الكبرى، ويأخذ من اتفاق الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا مثالاً على إقامة منظمة دولية عند انتهاء الحرب. إلا أن الباحث يشير في الوقت ذاته أن ثمة بعض من الوهم في الحديث عن القوى الكبرى في عصرنا الحالي. لا سيما من حيث استمراريتها في مجلس الأمن. إذ من الواضح أنها ليست كبرى لمجرد أنها تمتلك حق النقض في المجلس، وإنما بمقدورها أن تعطي نفسها حق النقض لأنها قوية، وعلى الرغم من عدم تماثلها من حيث القوة، إذ في وسع عامة الناس أن يصدر حكماً عملياً مضمونه أن لا وجود إلا لقوتين كبيرتين في العالم هما: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (سابقاً) وأن يجتمعوا على التصنيف الرسمي لعبارات جديدة كعبارة (القوة العظمى والمطلقة) لوصف القوى التي تبدو لهم كبيرة على نحو لا شك فيه. وهو اعتراف ينطوي كذلك الأمر على شيء من التمني والمجاملة الرسمية. وهو ما حدث حين استمالت القوى الكبرى في العالم فرنسا والصين عند نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي معرض حديثه عن القوى الكبرى، يتناول وايت مصطلح "القوى الثانوية" مشيراً إلى حقيقة كون الغالبية العظمى من الدول ليست قوى كبرى، وإنما ثانوية، ويقارن ما بينهما من حيث أنها وعلى النقيض من الأولى، فهي قوى ذات نطاق أوسع، وتمتد على حواف القوى الكبرى كدولٍ صغيرة وتعوزها القوة العسكرية مثل لوكسمبورغ أو كوستاريكا. وهي صغيرة إلى حد لا يمكن أن نطلق عليها اسم قوى في وقت يكون فيه عدد سكان أكثر الدول الثانوية قليلاً مقارنة بعدد سكان الكبرى منها. وعلى الرغم من اعتبار وايت القيمة الجوهرية الكامنة في الحجم السياسي خطأ جسيماً، فإن الدول الصغيرة لها أن تكون أسعد أعضاء الجماعة الدولية وأكثرها تحضراً.. ذلك أن بعضها مثل جنيف في القرن السادس عشر، أو فايمار في أواخر القرن الثامن عشر كان لها تأثير محفز من الناحية الثقافية، وتأثير حميد في منظومة الدول كلها، إلا أنه ثمة عاطفة (لا تاريخية) في تأكيد مقولة: "كل الأشياء العظيمة صنعتها الأمم الصغيرة" إذ يشير هنا وايت أن للقوى الثانوية نوعين، وهما نوعان يحققان التقدم على بقية أنواع القوى الدولية الثانوية، وهما: القوى الإقليمية، والقوى المتوسطة. وهذه الأخيرة، أي القوى المتوسطة، تظهر وتشكل مكانتها عند تعديل المؤهلات الخاصة بمكانة الدول الكبرى. إلا أن الفجوة ما بين القوى الكبرى والقوى الثانوية أكبر منها بين القوى المتوسطة والقوى الثانوية. لأن الوسائل التي في متناول القوى الثانوية لا تمكنها إلا من الدفاع عن مصالح محدودة، فضلاً عن النزاعات الإقليمية مع جيرانها، وهنا يمكن القول إن نطاق سياسة القوى الثانوية خارجياً ضيق بحيث اْن لا مصلحة لها في نهاية الأمر سوى الحفاظ على استقلالها. وهنا من الضروري أيضا الإشارة إلى ما خلص إليه وايت في دراسة السياسة الدولية؛ وهو مسألة ما إذا كانت العلاقات بين القوى أكثر من مجرد "سياسة قوة" والسؤال الأهم: إلى أي مدى يمكن القول إن لدى القوى مصالح مشتركة؟ إلا أنه من غير الممكن أن تحظى فكرة "المصالح المشتركة" بقدر كبير من الحيوية إذا فصلت عن فكرة الالتزام العام؛ ذلك أن ثمة نظاماً أخلاقياً يدعو طبيعة الإنسان العقلانية إلى الامتثال له، وفي كل مكان، وبالتالي فهو يعلم أن المصالح الحقيقية للمجتمعات البشرية لا تتعارض، بل هي مرتبطة معاً بالواجبات القانونية والأخلاقية. وعلى الرغم من أن ما سبق يمكن عده تقليداً من تقاليد الجماعة الدولية ذات المعيار المشترك للالتزام بالعدالة، إلا أن تلك التقاليد هي صاحبة التأثير الرئيس الذي خفف من عمليات سياسة القوة، وأسهم في نهاية الأمر في التأسيس لميثاق الأمم المتحدة.