
تحديات الاستجابة... الاقتصاد العالمي في ظل هيمنة الدولار على حساب سلة العملات

مراصد
5/6/2025، 10:06:50 ص
سيطر الدولار على سوق التبادل التجاري الدولي، فيما اليوم يواجه منافسين لعل أبرزهم اليورو الاوروبي واليوان الصيني، فبعد ما يزيد على العقود الثمانية الماضية، توطدت مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى اقتصادية وجيوسياسية ودور الدولار الأمريكي كعملة مهيمنة عالميًا.
ولطالما ارتبطت هيمنة الولايات المتحدة كمرادف لدور الدولار الأبرز في المعاملات النقدية الدولية واحتياطيات النقد الأجنبي. بينما تتزايد التوترات التجارية عالمياً بعد الرسوم الجمركية التي فرضتها ادارة الرئيس دونالد ترامب، وصرّحت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، أن اليورو يمتلك المقومات التي تؤهله ليكون بديلاً فعّالًا للدولار، شريطة أن تتمكن الحكومات الأوروبية من تعزيز البنية المالية والقانونية للاتحاد الأوروبي.
▪︎ دولار دائم
فيما تسعى الولايات المتحدة الى ديمومة القدرة المالية في إدارة ميزانية دفاع ضخمة وإجراء عمليات عسكرية واسعة النطاق في الخارج. وفي المقابل، استخدمت الولايات المتحدة قدراتها العسكرية لدعم التدفق الحر للسلع ورؤوس الأموال عبر العالم، مما عزز النمو العالمي مع منح المستثمرين الثقة في أمان استثماراتهم في الأدوات المالية الأمريكية. وقد ساهمت هذه الدورة الفاضلة في الاستقرار طويل الأمد للنظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى ارتفاع مستدام في الرفاه الاقتصادي في الولايات المتحدة وحول العالم.
وتحت عنوان "لماذا لا تستطيع الولايات المتحدة تحمل خسارة هيمنة الدولار؟". نشر المجلس الاطلسي للأبحاث ورقة تحليل استراتيجية كتبها أبرز خبراء الاقتصاد الامريكي "مارتن موهليسن وفالبونا زينيلي" في 20 ايار 2025، تؤكد ان مع استمرار انكماش حجم الاقتصاد الأمريكي مقارنةً ببقية العالم، قد تبدأ هذه الديناميكية في قلب موازين القوى، حيث تتنبأ الدراسة انه سيكون "من الصعب تمويل الحفاظ على الوجود العسكري العالمي في المستقبل إذا فقد الدولار الأمريكي موقعه كاحتياطي مهيمن، مما يعكس الدورة الإيجابية ويعجل بفقدان الولايات المتحدة لنفوذها العالمي".
مشيرة الى ان هذا هو أحد الأسباب التي تجعل المنافسين الاستراتيجيين، مثل الصين وروسيا، يعملون حاليًا على "إلغاء الدولرة" في علاقاتهم الاقتصادية والتدفقات المالية العالمية على نطاق أوسع. على الرغم من أن قمة بريكس العام الماضي فشلت في إحراز تقدم بشأن نظام مالي بديل، فإن الصين وروسيا عازمتان على تقويض الدور القيادي للدولار، والحد من قدرة الولايات المتحدة على فرض العقوبات، وزيادة تكلفة خدمة ديونها وتمويل ميزانية دفاعية ضخمة.
▪︎ يورو منافس
في المقابل، وفي خطاب ألقته في برلين، أوضحت كريستين لاغارد أن التقلبات الأخيرة في السياسة الاقتصادية الأميركية دفعت العديد من المستثمرين العالميين إلى تقليص انكشافهم على الأصول المقومة بالدولار، في حين لجأ كثيرون إلى الذهب في ظل غياب بدائل مباشرة. ورغم هذه التطورات، لا يزال الدور العالمي لليورو في حالة جمود منذ عقود، وهو ما أرجعته لاغارد إلى غياب مؤسسات مالية مكتملة داخل الاتحاد الأوروبي، وإلى ضعف رغبة الحكومات في المضي قدمًا في عملية التكامل. وأكدت رئيسة البنك المركزي الأوروبي أن تحقيق هذا الهدف يتطلب بناء سوق رأس مال أوسع وأكثر سيولة، وتعزيز الأسس القانونية، بالإضافة إلى دعم التزام دول القارة بالتجارة المفتوحة عبر تطوير قدراتها الأمنية. وتابعت لاغارد أن الدولار يواصل فقدان بعضا من دوره العالمي، إذ انخفضت حصته من الاحتياطيات الدولية إلى 58%، وهي أدنى نسبة منذ عقود، لكنها لا تزال تفوق بكثير حصة اليورو التي تبلغ 20%. وشددت في ختام كلمتها على ضرورة أن تعمل أوروبا على جعل اليورو العملة المفضلة للشركات العاملة بالتجارة الدولية، من خلال توقيع اتفاقيات تجارية جديدة، وتحسين أنظمة الدفع عبر الحدود، وتوسيع اتفاقيات السيولة مع البنك المركزي الأوروبي. ومنذ إعلان ترامب عن حزمة الرسوم الكمركية العالمية، تعرضت العملة الأميركية للضغط وأصبح اليورو أقوى في مواجهة الدولار مما كان الأمر عليه قبل أكثر من 3 سنوات.
▪︎ اليوان يقفز
من جانب اخر، طلب البنك المركزي الصيني من البنوك الكبرى في البلاد زيادة نسبة استخدام اليوان في تسهيل معاملات التجارة عبر الحدود، في خطوة جديدة تعكس مساعي بكين المتواصلة لتعزيز مكانة عملتها الوطنية على الساحة العالمية، وسط تصاعد التداعيات الناتجة عن الرسوم الكمركية التي تفرضها الولايات المتحدة. وبحسب مصادر مطلعة لوكالة "بلومبرغ"، رفع بنك الشعب الصيني الحد الأدنى الموصى به لنسبة المعاملات التجارية المقومة باليوان من 25% إلى 40%، وذلك ضمن تعديلات حديثة على ما يُعرف بـ"Macro Prudential Assessment". وعلى الرغم من أن هذه النسبة ليست ملزمة رسمياً، فإن البنوك التي لا تلتزم بها غالباً ما تحصل على تقييمات تنظيمية أقل، مما قد يحد من قدرتها على التوسع في المستقبل. ويعكس هذا الرفع الحاد في النسبة مدى إصرار بكين على تسريع وتيرة اعتماد اليوان في التجارة الدولية، في وقت تتزايد فيه المخاوف من الاعتماد على الأصول المقومة بالدولار، خصوصاً في ظل السياسات التجارية التصعيدية التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية.
▪︎ التعامل التجاري
من جانبه، قال رئيس شركة ناصر السعيدي وشركاه، ناصر السعيدي، في مقابلة أجرتها معه "العربية Business"، إن اليورو يشكل نحو 20% من الاحتياطات العالمية، لكن دوره في تمويل التجارة الدولية لا يتجاوز 6%. وفي الوقت ذاته، هناك تصاعد في الاهتمام باليوان الصيني. موضحا "إذا استمرت السياسات التجارية للرئيس ترامب أو تم تبني سياسات مشابهة، فقد يؤدي ذلك إلى تغييرات جيوسياسية وجيو - اقتصادية عميقة، ويُحتمل أن تتجه بقية دول العالم نحو استخدام عملات بديلة للدولار، واليورو قد يلعب الدور الأهم". وقال السعيدي، إن الوقت قد حان لتنويع سلة العملات التي تعتمد عليها الدول لما لذلك من دور في الحد من التقلبات، وخاصة تلك الناجمة عن ضعف الدولار الذي نشهده حاليا، موضحا "يجب ألا ننسى أن ضعف الدولار يؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم، كما أن أسعار الفائدة في الولايات المتحدة لا تزال مرتفعة في ظل اتجاه الاقتصاد نحو الركود التضخمي، وهذا الوضع يؤثر سلبا على أسواق النفط". وفي هذا السياق، قال محمد حشاد، كبير محللي الأسواق في (نور كابيتال)، إن خطاب رئيسة البنك المركزي الأوروبي، الأخير حمل رسائل هامة تختلف عن الخطابات السابقة، وأضاف في مقابلة صحفية "لم تتطرق لاغارد بشكل موسع إلى السياسة النقدية المستقبلية، بل ركزت على تعزيز استقلالية الاقتصاد في دول الاتحاد الأوروبي وتحقيق مزيد من الاستقرار لليورو"، منوها الى انها تهدف الى جعل اليورو يلعب دورًا دوليًا موازياً للدولار الأميركي، مستشهدة بتراجع حصة الدولار كعملة احتياطية إلى 58%، رغم تفوق الدولار الكبير على اليورو في الوقت الحالي.
▪︎ تحليلات اوروبية
وكان موقع المجلس الاوروبي للعلاقات الخارجية قد دعا في دراسة نشرت في اذار الماضي ، اطلعت عليها "مراصد"، الى اتباع سياسات رادعة للرسوم الجمركية التي ابتدع سياساتها الرئيس الامريكي دونالد ترامب، تضمنت الرد على ما وصفته ب" إدارة ترامب العدوانية الجديدة، يتعين على الأوروبيين أن يفهموا الأصول التي يمكنهم استخدامها كرادع في مجالات التجارة والتكنولوجيا والبنية الأساسية والتمويل والعلاقات بين الشعوب، حيث يمتلك الاتحاد الأوروبي وشركاؤه الأوروبيون "أوراقًا" يمكنهم اللعب بها"، ومن ابرز هذه الاوراق اتباع سياسات تقييم المزايا النسبية والتكاليف التي قد تترتب على أوروبا نتيجة لذلك بما ينبغي للاتحاد الأوروبي أن ينشئ بنية تحتية للردع الاقتصادي وأن يعزز أدواته الحالية لمكافحة الإكراه. وفي ورقة بحثية نُشِرَت مؤخراً، رسم الأكاديميان، ينس فانت كلوستر من جامعة أمستردام، وستيفين موراو الذي يعمل لدى منتدى المناخ العالمي في برلين حالياً، ملامح دليل أشبه ما يكون بـ "كيف تؤسس عملة احتياطي؟". وسلّط الدليل الضوء بكثافة على مسألة لا تحظى باهتمام كبير، تتمثل بالدور الذي يلعبه اليورو في التجارة والمدفوعات العالمية، وكتب الأكاديميان أن أوروبا تُبدي في الوقت الراهن "نقصاً محيّراً للنفوذ" في هذا الصدد، وحسب ما أشارت إليه ورقتهما، فقد أعرب جون كلود يونكر، الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية، في عام 2018، عن ضيقه من التقدم البطيء في هذا الصدد. وصرح: "من العبث أن أوروبا تسدد 80 % من فاتورة وارداتها من الطاقة، ما يعادل 300 مليار يورو سنوياً، بالدولار في حين أن 2 % فقط من وارداتنا من الطاقة يأتي من الولايات المتحدة". ويعتقد الأكاديميان بأن السلطات الأوروبية العديدة يجب عليها أن تضع في اعتبارها أن تكون أكثر نشاطًا في الدفع باليورو ليكون عملة للتجارة العالمية، وأن تكون أكثر استعداداً لتشجيع استخدام العملة المُوحدة خارج حدودها.
▪︎ ثبات الموقف الامريكي
على الرغم من كل ذلك، تجد دراسة المجلس الاطلسي، انه "لا توجد حاليًا أي عملة أخرى (أو مجموعة عملات) قادرة على تحدي هيمنة الدولار الأمريكي، حتى دورٌ أصغر للدولار في المعاملات التجارية العالمية لن يُشكّل تحديًا مباشرًا لوضعه كعملة احتياطية، نظرًا لقلة البدائل الاستثمارية في العملات الأخرى على نطاقٍ يُضاهي الأسواق الأمريكية". واذ تؤدي إجراءات التعريفات الكمركية التي أعلنتها إدارة ترامب مؤخرًا إلى تراجعٍ في الاستخدام العالمي للدولار، خاصةً إذا رافقها تراجعٌ في الثقة بالولايات المتحدة كوجهةٍ آمنةٍ وسائلةٍ للأصول المالية العالمية، وبالمثل، فإن اقتراح الرئيس الحالي لمجلس المستشارين الاقتصاديين باستخدام التعريفات الكمركية كوسيلةٍ للتفاوض على التكافؤ في أسعار الصرف مع شركاء الولايات المتحدة التجاريين، وإعادة هيكلة حيازاتهم من سندات الخزانة الأمريكية إلى سنداتٍ لأجل مئة عام - فيما يُسمى باتفاقية( مار-أ-لاغو )من شأنه أن يُضعف الدولار عمدا لدعم التصنيع المحلي، قد يؤدي هذا إلى مزيد من تآكل هيمنة العملة العالمية، وسينطوي على تكاليف باهظة للاقتصاد العالمي، بما في ذلك الولايات المتحدة، حيث سترتبط الأسواق الأكثر تجزئةً والتقلبات المالية المتزايدة بخسائر في الدخل وارتفاع التضخم. وفي مواجهة تكاليف اقتراض أعلى، ستُجبر الولايات المتحدة على اتخاذ قرارات إنفاق صعبة بين ميزانيتها العسكرية وبرامج الرعاية الاجتماعية وأولويات أخرى، وسيتراجع دورها القيادي العالمي، مما يسمح للخصوم الاستراتيجيين بالاستفادة من أي فراغ قد يتركه تراجع الدور الأمريكي. وعلى هذا الاساس، تنصح هذه الدراسة انه من "الضروري للأمن القومي الأمريكي أن يحافظ الدولار على دوره في قلب التجارة والشبكات المالية العالمية." وتقترح الدراسة سبلا للولايات المتحدة للحفاظ على جاذبية الأصول المقومة بالدولار للمستثمرين الأجانب، داعيةً إلى حل سريع للنزاعات الجمركية التي قد تُضعف مكانتها العالمية، كما تُشدد على ضرورة تعويض التراجع النسبي في القدرات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية بتحالفات قوية، مما سيحرم الصين والدول الأخرى من فرصة استراتيجية لإضعاف نفوذ الولايات المتحدة على الساحة العالمية والامتياز الباهظ الذي لا يزال يتمتع به الدولار كعملة احتياطية عالمية.