
ليبيا من الداخل... صراع الفصائل يهدد السلم الاهلي وجهود دولية لاحتواء حرب محتملة

مراصد
5/6/2025، 10:06:56 ص
في خضم الصراع الليبي المتشعّب، تبرز دعواتٌ للتوافق الوطني كخيارٍ استراتيجي لا بديل عنه، خاصةً في ظل إدراك أن كل طرفٍ من الأطراف الليبية يحظى بدعم خارجي يجعل من الحرب الداخلية حربًا بالوكالة تُدار من قبل دولٍ تهدف إلى استنزاف ليبيا وثرواتها.
ولعل مايجري في ليبيا اليوم تجسيد لمقولة أن "الحرب ليست سوى امتداد للسياسة بوسائل أخرى". فقد دارت رحى الصراع الليبي، على مدى السنوات الماضية، حول التنافس المحتدم على السلطة بين حاكمي البلاد الفعليين: عائلة الدبيبة التي تحكم طرابلس عبر حكومة وحدة وطنية، وعائلة حفتر التي أقامت في بنغازي نظاما عسكريا لا يُخفي طبيعته.
▪︎ نزاع الفصائل
أشعل اغتيال قائد إحدى الفصائل المسلحة في طرابلس، فتيل اشتباكات عنيفة استمرت 3 أيام في شوارع العاصمة الليبية، ما سلَّط الضوء على الأزمة العميقة المستمرة في ليبيا منذ سقوط نظام القذافي عام 2011. حول هذا الصراع طرابلس إلى ساحة تتبارى فيها فصائل مسلحة، الأسبوع الماضي، هو أحد فصول نزاع مستمر على السلطة في ليبيا منذ سنوات، حيث تتواجد حكومتان متنافستان، الأولى في طرابلس غرباً، ويرأسها عبد الحميد الدبيبة، وهي الحكومة التي أقالها البرلمان، لكن تعترف بها الأمم المتحدة، والثانية في مدينة بنغازي بالمنطقة الشرقية، برئاسة أسامة حمّاد، وتحظى بدعم البرلمان، وقائد الجيش المشير خليفة حفتر. وتعتبر المنطقة الغربية من ليبيا حلبة صراع محتدم، خاصة أنها تضم مدينة مصراتة التي ينحدر منها الدبيبة، كما أن بها المقار الحكومية والمؤسسات السيادية، ما يجعل السيطرة عليها هدفاً محورياً في تحديد موازين القوى. وخلق هذا الانقسام ولاءات وتحالفات، وكذلك انبثق عنه تنافس وتناحر على السيطرة، ما تسبب في تحول البلاد إلى شطرين منفصلين سياسياً وعسكرياً لا تجمعهما سوى الجغرافيا. وحتى هذه الولاءات والتحالفات تتغير بحسب تطور الأحداث، إذ يمكن أن تنقلب المعادلات والحسابات سواء لسبب سياسي أو تطور ميداني، لكن في كل الأحوال تظل النتيجة واحدة، وهي بلد منقسم إلى مناطق نفوذ خاضعة لمجموعات أو فصائل لها انتماءات وأجندات مختلفة، وتفرض كل منها خارطة نفوذ جديدة بقوة السلاح في كل مرة تندلع فيها اشتباكات، ما يحوِّل الأحياء المدنية إلى ساحات للقتال بين الحين والآخر..
▪︎ موقف دولي
من جهتها دعت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا إلى وقف فوري لإطلاق النار في العاصمة طرابلس، بعد اندلاع اشتباكات بالأسلحة الثقيلة، وعبرت البعثة في بيان لها، عن "قلقها البالغ إزاء تفاقم الوضع الأمني في طرابلس، مع اشتداد القتال بالأسلحة الثقيلة في الأحياء المدنية ذات الكثافة السكانية العالية". وقالت البعثة إنها "تدعو جميع الأطراف إلى وقف الاقتتال فورًا واستعادة الهدوء"، مُحذرة من "الهجمات على المدنيين والأهداف المدنية قد ترقى إلى جرائم حرب"، وسبق أن حذّرت البعثة الأممية من تحشيدات عسكرية في غرب ليبيا، مع تناقل لقطات مصورة لتحرك أرتال تجاه العاصمة.
وحينما تُسابق الديبلوماسية الدولية الزمن بحثاً عن مخرج للأزمة المتفاقمة في ليبيا، وسط خيارات محدودة وتصاعد في التوترات الأمنية بلغ حداً ينذر بالخطر ، يتنافس رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة وخصومه في غرب ليبيا ، يسود ترقب دولي حذر إزاء قدرته على احتواء الاحتجاجات المتنامية، والتي اتسعت رقعتها خلال الأيام الأخيرة، لتصل إلى التهديد بإغلاق أكبر المصافي النفطية في مدينة الزاوية، وشركة "مليتة" للغاز على الساحل الغربي، حيث دخل قائد "الجيش الوطني الليبي" خليفة حفتر على خط النزاع، من خلال عرض عسكري ضخم نفّذته قواته، حاملاً رسائل استعراض قوة إلى الداخل والخارج، وأكد حفتر في كلمته أن "القوات المسلحة ستكون لها الكلمة الفاصلة في اللحظة الحاسمة"، مشدداً على الحرص على "وحدة ليبيا وسلامة أراضيها". يتزامن ذلك مع جولات مكوكية داخلياً وإقليمياً قامت بها الموفدة الأممية هانا تيتيه، أملاً في التوصل إلى توافق طال انتظاره بشأن خريطة طريق لحل الأزمة والذهاب إلى صناديق الاقتراع. لكن مصادر ديبلوماسية دولية اكدت لصحيفة النهار اللبنانية، أن الخيارات باتت "محدودة للغاية في ظل احتدام الصراع بين الفرقاء". وتتركز جهود البعثة الأممية على أربعة خيارات، ثلاثة منها مشروطة بتحقيق توافق بين المؤسسات المتحكمة بالسلطة في شرق البلاد وغربها، وهي: الذهاب إلى انتخابات رئاسية وتشريعية متزامنة، أو الاكتفاء بإجراء انتخابات نيابية، يتبعها تمرير البرلمان المنتخب لمشروع الدستور، ومن ثم إجراء انتخابات رئاسية، أو التوجه مباشرة إلى استفتاء شعبي على دستور جديد يؤسس لعملية انتخابية. أما الخيار الرابع، فيتمثل في تجميد عمل السلطتين التشريعيتين (مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة)، وإعادة إحياء لجنة الحوار السياسي، التي سبق أن اختارت الدبيبة رئيساً للحكومة في ربيع 2021، لتتولى الدور التشريعي من خلال تمرير القوانين الانتخابية وتشكيل حكومة "طوارئ" تشرف على الانتخابات.
▪︎ احداث طرابلس
تخضع طرابلس في جزء كبير منها لحكومة الدبيبة، لكن السيطرة تجري عبر أجهزة تتفرع في معظمها لتضم مجموعات مسلحة عدة، وتخضع بدورها لهذه الفصائل، والتي تكون في بعض الأحيان مستترة تحت غطاء مؤسسات الدولة، بحسب المحلل السياسي الليبي أحمد المهدوي، وكعادة كل اشتباكات في غرب ليبيا، تعود التشكيلات المسلحة إلى الواجهة لتكون مؤشراً على وجود "انفجار داخلي" يؤثر بشكل أو بآخر على خارطة سيطرة ونفوذ هذا الطرف أو ذاك. واندلعت في طرابلس مساء 12 ايار الماضي، اشتباكات عنيفة بعد اغتيال قائد "جهاز دعم الاستقرار" عبد الغني الككلي المعروف بـ"غنيوة"، وهو قائد بارز لإحدى الفصائل المسلحة في طرابلس، خلال اجتماع في مقر "اللواء 444" التابع لوزارة الدفاع في حكومة الدبيبة. ولاحقاً وصف رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة العملية التي أدت إلى اغتيال الككلي في كلمة متلفزة بأنها "عملية ناجحة وسريعة "، مشيراً إلى أنها تمت دون إحداث أضرار مادية بالمواطنين، لأن المنطقة التي تمت فيها "بوسليم" مزدحمة بالسكان. يعود جوهر الأزمة إلى مخاوف رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة، الذي وجد نفسه بين تراجع نفوذه السياسي، وفقدان قبضته على الموارد المالية للدولة. فعلى مدى عام كامل، أخذت قبضته تتهاوى، بينما ازدادت تهديدات خصومه لإزاحته عن السلطة. كرد فعل، شن الدبيبة حملة لتعزيز موقعه في طرابلس، مستهدفا القوى المسلحة التي تحولت من حليف أساسي لحماية حكومته إلى أداة ابتزاز، تفرض شروطها وتنمي نفوذها. وفي منعطف خطير، أدرك أن هذه الجماعات المسلحة قد تتحول إلى حاضنة قد تفتح الباب أمام تنصيب مرشح يُمليه عليه خصمه اللدود خليفة حفتر. اعتمد الدبيبة على "الكتيبة 444" التابعة لوزارة الدفاع، والتي تلقت تدريبا وتجهيزا من تركيا، إلى جانب وحدات من مسقط رأسه مصراتة، لتنفيذ ما يمكن وصفه بـ"فرصته المناسبة" حين جاء عبد الغني الككلي، المعروف باسم "غنيوة" وأحد أبرز قادة الميليشيات في طرابلس، إلى اجتماع لم يخرج منه أبدا، بحسب اتهامات. وما هي إلا لحظات حتى انقضت "الكتيبة 444" على معاقل "غنيوة" الاستراتيجية، مستغلة الفراغ الأمني لبسط سيطرتها عليها.
▪︎ إعادة رسم خريطة النفوذ
توشر مصادر صحفية أن "نفوذ الككلي تفاقم بشكل هائل حتى أن بعض المطلعين على مجريات الأمور يعتبرون أنه كان يدير جيشاً خاصاً به لخدمة مصالحه وحلفائه داخل أجهزة الدولة، ولأن نفوذاً بهذا الحجم يتطلب تمويلاً ضخماً، كان الككلي يسيطر على موارد اقتصادية من خلال التهريب والاقتصاد الموازي، بل يتهمه البعض بالانخراط في صراع النفوذ داخل المصرف المركزي، ما يجعل نفوذه كأنه أخطبوط ممتد في معظم أجهزة الدولة ومؤسساتها". واعتبرت هذه المصادر أن "الدبيبة كان بطبيعة الحال على دراية بكل ذلك، ولذلك شهدت السنوات الماضية، محاولات منه لتحجيم التشكيلات المسلحة، ليس من منطلق قرار سياسي داخلي فقط، وإنما أيضاً رضوخاً لضغوط خارجية، لكن المهمة لم تكن يسيرة، خاصة أن الككلي نفسه كان متهماً بتعطيل مساعي توحيد الهياكل الأمنية، لذلك، فإن قتله لا يمنح الدبيبة المجال للسيطرة على تشكيلاته المسلحة وترهيب بقية المجموعات فقط، وإنما يمنحه أيضاً نقطة بداية لعملية أوسع تستهدف إعادة رسم خريطة النفوذ في طرابلس. وتشير المصادر إلى إجراءات دولية متزامنة بحق عدد من "أمراء الحرب" المصنفين أكثر العناصر خطورة، بينها ملاحقات قانونية وتجميد أرصدة، إضافة إلى تشديد الرقابة على الموازنة الليبية في خطوة لتجفيف مصادر تمويل الميليشيات. وخلال لقائه سفراء دول أوروبية، كرّر الدبيبة تعهده "إنهاء جميع التشكيلات المسلحة الخارجة عن مؤسستي الجيش والشرطة"، وأكد "التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية في إطار التزام حكومته مكافحة الإفلات من العقاب وضمان المساءلة عن الجرائم الجسيمة بحق الليبيين". وفي خطوة لتعزيز التهدئة، أعلنت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا تشكيل لجنة يرأسها رئيس الأركان العامة اللواء محمد الحداد، للعمل على تثبيت الهدنة التي تم التوصل إليها الأسبوع الماضي.
▪︎ تحرك تركي
في السياق نفسه، دخلت أنقرة على الخط، إذ زار نائب رئيس جهاز الاستخبارات التركي جمال تشاليك، العاصمة الليبية وعقد سلسلة لقاءات مع قيادات عسكرية، أبرزها قائد "جهاز الردع" عبد الرؤوف كارة، في مسعى لاحتواء التوتر. وكان وزير الخارجية التركي حقان فيدان كشف عن "وساطة جارية بين شرق ليبيا وغربها، لوضع خريطة طريق تشمل تشكيل حكومة موحدة ثم تنظيم انتخابات"، فيما بدا أنه تحول في الموقف التركي. وقال فيدان: "نعمل على ذلك، وسيكون بمثابة تغيير كبير". ويعتبر الناشط والمحلل السياسي الليبي علاء الدين بن عثمان، والذي شارك في اجتماعات البعثة الأممية، أن ما جرى في طرابلس "يؤكد أن الملف الأمني ما زال في صدارة المشهد، وأن أي مشروع سياسي لا يُبنى على أسس استقرار المدنيين وحمايتهم سيظل هشاً ومعرّضاً للانهيار في أي لحظة". ويؤكد في تصريح صحفي أن "رئيس الحكومة أمام اختبار صعب يتمثل في قدرته على احتواء تداعيات الصدامات الأخيرة".