
اللامنتمي الرقمي... الوحدة في مجتمع متصل

رائد مهدي صالح
12/6/2025، 10:29:57 ص
حين كتب كولن ولسون عن "اللامنتمي"، كان يصف شخصًا يرى الواقع منافقًا، يشعر بأنه غريب وسط الجموع، ويبحث عن المعنى في عالم يراه فارغًا. هذا الوصف، رغم بساطته، يلامس اليوم واقع الكثير من العراقيين - خاصة من جيل الشباب.
في أحد مقاهي البصرة، يجلس شاب عراقي يحدّق في هاتفه. يضحك على مقطع ساخر، يمرر صور أصدقائه الذين لم يلتقِ بهم منذ شهور، يضغط على زر الإعجاب، ثم يعيد الهاتف إلى الطاولة، وعيناه تائهتان في سقف المقهى. حوله ضجيج المولدات، أخبار السياسة، صخب الزبائن، لكن في داخله... صمت ثقيل. هذا المشهد يتكرر في مدن العراق كل يوم. ففي زمن يُفترض أنه عصر "الاتصال الدائم"، يعيش الكثير من الشباب العراقي شعورًا متزايدًا بالانفصال: عن المجتمع، عن الذات، وأحيانًا عن الوطن. اللامنتمي، كما وصفه كولن ولسون، هو شخص يرى الحياة سطحية، والمجتمع خانقًا، والقيم التقليدية زائفة. يمرّ بأزمات داخلية لا يمكن للمحيطين به فهمها، ويشعر دائمًا بأنه خارج اللعبة الاجتماعية. لا يستطيع التكيّف بسهولة، ويبحث عن المعنى في الفن، والفلسفة، والوجود ذاته. ولسون رأى في "اللامنتمي" رمزًا لوعي عميق، لكنه غير مُحتوًى - وربما يكون هذا النموذج الأكثر تمثيلًا للإنسان المعاصر في زمن التكنولوجيا. لقد وجدت الحداثة في التكنولوجيا شريكًا أساسيًا لدفع عجلة التطور. فمنذ الثورة الصناعية، أدّت الابتكارات التكنولوجية المتلاحقة إلى تحولات جذرية في أنماط الحياة، والعمل، وحتى التفكير. ومع ذلك، وفي خضم هذا التقدّم السريع، يبرز مفهوم "اللاانتماء" كظلّ لهذه العلاقة المتشابكة. يصف عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان "الحداثة السائلة" بأنها المرحلة الراهنة من الحداثة، التي تتسم بالمرونة، والسيولة، وعدم الاستقرار، على عكس الحداثة "الصلبة" السابقة التي تميزت بالثبات واليقين والهياكل الجامدة. في هذا السياق، تصبح العلاقات الاجتماعية، والهويات الفردية، وحتى المؤسسات، غير ثابتة ومعرّضة للتغيّر المستمر، ما يخلق بيئة من القلق وعدم اليقين للأفراد، الذين يواجهون تحديات غير مسبوقة في بناء مسارات حياتهم، ضمن نمط استهلاكي وفردي يسعى للتجديد المستمر دون الاستقرار على أي شكل أو قيمة. وفي السياق ذاته، تناولت شيري توركل في كتابها وَحدة معًا: لماذا نتوقّع المزيد من التكنولوجيا وأقل من بعضنا البعض؟ التناقض بين الاتصال الرقمي المتزايد والشعور المتنامي بالوحدة والعزلة. ترى توركل أن التكنولوجيا، لا سيما الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، توفّر لنا وهم الاتصال والرفقة، ما يدفعنا إلى البحث عن علاقات سطحية عبر الشاشات، بدلاً من التفاعلات الإنسانية العميقة وجهًا لوجه. هذا الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا لتلبية احتياجاتنا الاجتماعية، يؤدي في النهاية إلى تراجع في القدرة على التعاطف، وتآكل الحميمية في العلاقات الحقيقية، وشعور بالوحدة... رغم أننا "متصلون" دائمًا. اللامنتمي العراقي قد لا يرتدي قناع التمرد الصارخ، لكنه يحمل في داخله خيبة أمل، وانعدام ثقة، وإحساسًا باللاجدوى. ضاعت عليه أحلام الطفولة بين الحروب، والاحتلال، والطائفية، والبطالة. وها هو، وسط عصر الهواتف الذكية، لا يجد مكانًا حقيقيًا ينتمي إليه. لم يختف، بل تحوّل إلى نسخته الرقمية. صحيح لم يعد يجلس في مقهى ثقافي كما كان يفعل متذوقو الثقافة في شارع المتنبي، بل أصبح يقضي وقته بين إنستغرام وتيك توك، يتابع الأخبار السياسية، يكتب خواطره في صفحة شخصية لا يعرفها أحد، ويبحث عن معنى... في بحر لا نهاية له من المحتوى خلف شاشة، متنكرًا باسم مستعار. دخل الإنترنت حياة العراقيين بأحلام كبرى: حرية، صوت مسموع، تواصل مع العالم. في البداية، شعر "اللامنتمي" أن له صوتًا. فجأة، صار بإمكانه أن يكتب، يُشاهد، يُعبّر، دون رقيب. لكن شيئًا فشيئًا، الواقع جاء محمّلًا بالمفارقات. وسائل "التواصل" الاجتماعي، رغم تسميتها، أصبحت في حالات كثيرة وسيلة لـ "اللا تواصل". التفاعل البشري تم اختزاله في رموز تعبيرية. الأحاديث العميقة استُبدلت بمنشورات سطحية، ومقاطع قصيرة. وحتى الذكاء الاصطناعي، الذي صُمم لفهم الإنسان، بدأ يفرض عليه ما يجب أن يعرفه أو يحبّه، عبر خوارزميات تحاصره داخل "فقاعة رقمية". في العراق، حيث الهمّ السياسي والمعيشي لا يغيب، صارت وسائل التواصل أحيانًا ملاذًا للهروب من الواقع، لا مواجهته. صار "الانتماء الرقمي" مجرّد رقم على الشاشة: لا علاقة حقيقية، ولا تواصل صادق.
جيل جديد من "اللامنتمين" في العراق في المدارس والجامعات، في الأحياء الشعبية، وحتى في القرى، ينشأ اليوم جيل يتنفس العالم الرقمي أكثر مما يعيش الواقع العراقي. يضحك على النكات السياسية، يصنع فيديوهات ساخرة من الوضع العام، لكنه في داخله... يختنق. كتبت شابة من بغداد، "أشارك كل يوم ستوريات، وأعلّق على كل شيء، ولكن لا احد يعرف أني فقدت الشغف بالحياة." هذا الشعور لم يعد استثناءً. لقد أصبح طبيعيًا. لأن بيئة السوشيال ميديا تطالبك أن تكون "مبهرًا" - وأحيانًا "مهرّجًا" - حتى لو كنت محطمًا من الداخل. الكآبة، الألم، وحتى الأسئلة الوجودية، تُدفن تحت طبقات من الفلاتر والابتسامات الزائفة. علي ، شاب يقضي ساعات طويلة في تصفّح منصات التواصل، يشارك في نقاشات حادة حول الهوية والانتماء، ويشعر وكأنه جزء من مجتمع افتراضي كبير. لكن في ليالي الوحدة، عندما يغلق شاشة هاتفه، يجد نفسه غارقًا في فراغ قاتل، يتساءل: "أين هو هذا الانتماء الحقيقي الذي أبحث عنه؟ هل هو مجرد مجموعة من الأسماء والصور على شاشة زجاجية؟" اللامنتمي العراقي اليوم لا يصرخ في وجه الواقع كما فعل جيل الستينيات حيث عبّر عن الرفض بالصوت العالي: احتجاج، شعر، تنظير سياسي، وثورات فكرية. أما "اللامنتمي العراقي اليوم" استبدل الصراخ بالانسحاب، مدفوعًا ربما بخيبة أمل متراكمة وانعدام الثقة في التغيير. ينسحب. يكتفي بالمراقبة. يتابع، يستهلك، يضحك، يعلّق، ثم... يختفي. لا يُنتج، لا يعبّر بصدق، لا يبحث عن بناء. لأنه - ربما - لا يؤمن بأن صوته سيُسمع، أو أن جهده سيُثمر. هو داخل الإنترنت، لكنه بلا أثر. مراقب... لكنه غير مرئي.
الحقيقة أن المشكلة ليست في التكنولوجيا، كما إنها ليست العدو. هي أداة. في العراق، كما في أي مكان، يمكن أن تكون جسرًا... أو جدارًا. مع هذا،اليوم هناك مبادرات رقمية حقيقية: منصات شبابية، مشاريع ثقافية، بودكاستات تتحدث عن الهوية العراقية، وقنوات يوتيوب تعالج قضايا نفسية ومجتمعية. هناك شباب يخلقون محتوى واعيا، ويحاولون ترميم الوعي. يشهد المشهد الرقمي العراقي اليوم حراكًا ملحوظًا يختلف عن الصورة النمطية السائدة. ففي خضم التحديات المجتمعية والسياسية، تبرز مبادرات يقودها الشباب لتشكّل مساحات جديدة للنقاش والتعبير وبناء الوعي. هذه المبادرات لا تقتصر على الترفيه، بل تتعداه لتلامس قضايا جوهرية: الهوية، الثقافة، الصحة النفسية، والتنمية المجتمعية. تتجلّى في منصات حوارية، ومشاريع فنية، ومحاولات لإعادة قراءة الواقع العراقي وإعادة تشكيله. المشكلة ليست في الأداة، بل في كيفية تطويعها و كيف نستخدمها لصياغة ذواتنا، لا لإخفائها. يمتلك الشاب العراقي اليوم قدرة لا حدود لها ليخلق شيئًا جديدًا. أن يتحول من متلقٍ إلى صانع، أن يُدوّن، يُصوّر، يُعلّم، يروي قصته. أن يبني مجتمعه الرقمي، لا ليهرب إليه، بل ليجعل منه منبرا للوعي والانتماء. ربما لا يستطيع تغيير السياسة، أو حل أزمة الكهرباء، لكنه يستطيع أن يعلن من خلال مشروع رقمي بسيط: "أنا هنا... أنا موجود". السؤال في العراق، كما في كل مكان، لم يعد: هل نحن متصلون؟ بل: هل نحن حاضرون؟ في زمن يصفه البعض بالضياع، ربما يكون "اللامنتمي العراقي" هو الأصدق تعبيرا عن الواقع. لكنه أيضًا، إن وعى أدواته، قد يكون أول من يبدأ رحلة التغيير - من الداخل إلى الخارج، من الشاشة إلى الشارع، من العزلة إلى انتماء حقيقي ينبع من الذات، لا يُفرض من الخارج. وان صح اننا لا يمكننا إيقاف زحف التكنولوجيا. لكن يمكننا أن نختار كيف نستخدمها. يمكن لكل "لامنتمي رقمي" أن يبدأ بسؤال بسيط : ما الذي يجعلني أشعر بالانتماء؟.








