
فلسفة دولة... اقتصاد المستقبل وفجوة التنفيذ

مازن صاحب الشمري
14/6/2025، 10:49:19 ص
ما زال العراق يعيش مثالب المرحلة الانتقالية، من دون أي اتجاهات سليمة في بناء نموذجه الاستثماري واللحاق بركب العالم المتحول نحو اقتصاد المعرفة الذكي!! هذه المعضلة، تمثل الفارق بين طبيعة الاتفاق الاداري على بلورة انواع من الاستراتيجيات الوطنية لمختلف القطاعات التي تتوقف بسبب فجوة التنفيذ، وذات الحال عند الانضمام لمعاهدات دولية متعددة الاطراف، تسقط الالتزامات العراقية في التنفيذ الفعلي وتتحول الى مجرد ملفات على الرفوف العالية، لمجلس النواب او الوزارات المعنية بها.
هكذا يتكرر الاعلان عن خطوات تتخذ ومؤتمرات تعقد، ودورات تدريب تنظم، فيما الحاصل ان كل معايير اهداف التنمية المستدامة ما زالت قيد البحث ولم تتخذ سبيلها في الالتزام بالتنفيذ في المؤسسات الحكومية، وكل معايير الجودة الشاملة ما زالت مجرد وحدات او اقسام ترتبط بمكاتب الوزراء او المدراء العاميين بلا تطبيق يقيس جودة الخدمات الحكومية، وكل الاحاديث عن شفافية الاداء ومعايير الالتزام بالاستراتيجيات الوطنية، لعل الاستراتيجية الاخيرة لازمة المياه اكثرها الحاحا، ما زالت تنتظر اتفاقات سياسية مع دول الجوار، كذلك القطاع الخاص ما زال يعمل من تحت معطف السخاء الحكومي في هدر المال العام على مشاريع غير منتجة في تعظيم ادوار القطاع الخاص من خلال المشاريع الصغيرة والمتوسطة ومن دون أي تنظيم اداري جديد يقوده القطاع الخاص الذي لم ينتج بعد مرور عقدين على 2003 أي برجوازية وطنية عراقية تستعيد اوضاع شخصيات عراقية مثل "فتاح باشا" في صناعة النسيج او غيره من الاسماء المعروفة في الصناعات العراقية. اقر الدستور العراقي التحول الى نظام حكم ديمقراطي ولا مركزية ادارية واقتصاد حر يعتمد على السوق المنفتح على الاقتصاد العالمي، لكن الواقع العراقي، لا يزال بعيدا عن تحقيق هذه الرؤية خاصة في جوانبها الاقتصادية، نتيجة الالتزام السياسي بنموذج " الزبائنية" في فتح ابواب التوظيف لاسيما في قطاع القوات المسلحة والادارة المدنية الخدمية، بما يزيد على 6 ملايين وظيفة، لا تقدم خدمة انتاجية تزيد على 17 دقيقة عمل، وفق تصريحات من المستشارين الاقتصاديين، تؤكد ان هذه "الزبائنية" السياسية، تقف حجر عثرة امام أي تحولات حقيقية نحو اقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي التي تطرق ابواب المنطقة بقوة. لذا من الضروري تفعيل دور القطاع الخاص في معالجة هذه التحديات، باعتباره أحد اركان النظام الديمقراطي وكونه الشريك الاساسي في التنمية والنمو الاقتصادي. ظهرت عدة اوراق للسياسات العامة مثل تلك التي قدمت من مؤسسة سايب (CIPE) التابعة لغرفة التجارة في واشنطن، والتي ناقشت عام 2017 الخطوات الحقيقية والمعوقات الاساسية في 8 محافظات عراقية، وغيرها من اوراق العمل التي اشركت خبراء دوليين وناشطين محليين لمراجعة هذه الاولويات وتوحيدها في دراسة وطنية تعكس وجهة نظر القطاع الخاص في اولويات الاصلاح في العراق. تم في هذه الدراسة تحديد اهم هذه الاولويات والتي تتمثل في مواجهة التحديات لعل أبرزها تفشي الفساد، توسع الفجوة في التطبيق، البيروقراطية المعرقلة، وضعف التخطيط الاستراتيجي. لقد تم تشخيص فجوة التنفيذ في ضعف تنفيذ السياسات المقررة على ارض الواقع في العراق باعتبارها واحدة من اهم التحديات التي تواجه برامج التغيير والاصلاح في العراق، المقصود بالسياسات العامة " نقل التشريعات والاستراتيجيات والبرامج المقرة الى وقائع تطبيقية "ولاحظت تلك الدراسات عدم نجاح العديد من مساعي الاصلاح من خلال التشريعات والانظمة والبرامج، وذلك لضعف تطبيقها في ارض الواقع بسبب "فجوة التنفيذ" على المراحل المختلفة لتنفيذ تلك السياسات، حيث تم اعتماد تقسيم مراحل تنفيذ السياسات الى ستة مراحل وهي(التخطيط للسياسات، اكتساب المشروعية، بناء شبكة الداعمين والمناصرين، وضع الهيكل التنظيمي وتعديله، تخصيص الموارد والتنفيذ، واخيرا المراقبة والتقييم) مما ساهم في تشخيص المشاكل الهيكلية المسببة لوجود فجوة التنفيذ. اهم النتائج التي تم التوصل اليها خلال التحليل، وجود قصور واضح في مرحلة التخطيط للسياسات في نواحي عديدة اهمها فقدان الانسجام والتنسيق في اجراءات التغيير، كما ان تنفيذ السياسات أهمل طوال عقدين ونيف ما بعد 2003 مرحلة بناء شبكة الداعمين والمناصرين على اهميتها، فضلا عن اضطراب الموارد المادية بسبب تذبذب اسعار النفط، واهمال اهمية دور الكفاءات في تنفيذ السياسات، واخيرا الضعف الكبير في اجراءات تقييم البرامج والسياسات بهدف تطويرها. يمكن اقتراح عدة سياسات لمعالجة فجوة التنفيذ على ثلاثة محاور، نستعرضها بإيجاز :
اولا: هناك عدد من الاجراءات التي يمكن اتخاذها على المستوى السياسي ،مثل ضرورة قيادة عملية التحول الاقتصادي بشكل مهني مركزي يعمل على تنسيق الجهود في هذا المجال على المستوى الوطني وبما يتوافق مع الرؤية الوطنية مثلا عراق 2050 ، التي ما زالت غير متحققة حتى الان ، يمكن تحقيق ذلك من خلال اعادة قانون الاصلاح الاقتصادي الى دائرة الاهتمام بدلا من ركنه على الرفوف، فضلا عن تفعيل دور وزارة التخطيط بان تصبح الجهة المسؤولة عن سياسات الاصلاح الاقتصادي وتعديل قانونها بما يجعلها قادرة على اقتراح ومراجعة القوانين النافذة وصياغة القوانين الجديدة والاستراتيجيات الوطنية المتعلقة بالقطاع الاقتصادي. وتبقى المراقبة الميدانية واتاحة البيانات والمعلومات بشكل ميسر والاستفادة من الشبكة العنكبوتية بهذا المجال يؤدي الى انحسار فجوة التنفيذ اضافة الى انه يعزز الشفافية ويدعم المسائلة، ان اتاحة البيانات لواضعي السياسة الوطنيين والمحليين وكذلك عموم المواطنين والقطاع الخاص يطور من قدراتهم في وضع سياسات أكثر نضجا ويسهل عملية قياس تأثير هذه السياسات على ارض الواقع، عبر تصميم نافذة واحدة لتقديم الخدمة الحكومية، ويمكن تطوير موقع " اور" وما يقدمه من خدمات وصولا الى النموذج المطلوب في الاتمتة الادارية للخدمات الحكومية. وقد اسهمت السياسات السابقة في شحة الكفاءات العاملة في الوزارات التنفيذية وما ترتب على ذلك من اضعاف للقدرات في التخطيط والتنفيذ للسياسات المطلوبة، لذا من الضروري العمل على وضع سياسات تشجيع دور الكفاءات في الوزارات القطاعية وهذا امر بالغ الاهمية لتحسين الاداء من ناحية التخطيط والتنفيذ وخاصة في مجال توفير الخدمات، في ظل تنامي اهمية الاستراتيجيات الوطنية والمعاهدات الدولية في توجيه التنمية والتطور الاقتصادي ، بات من الضروري العمل على وضع صيغة تشريعية تنظم عملية صياغة الاستراتيجيات واقرارها وإلزام الجهات التنفيذية بها كما يضمن تخصيص الموارد اللازمة طيلة فترة تنفيذها، في ضرورة وجود ابعاد عقابية في ذات القوانين ، تحاسب الجهات التنفيذية على اليات التطبيق والالتزام بمعايير الحوكمة والجودة الشاملة ،لعل ابرزها تشريع البرنامج الحكومي في قانون يلزم الحكومة تقديم خلاصات تنفيذية عن الالتزام بتلك السياسات فصليا امام مجلس النواب وان تعلن للشعب على مواقع حكومية رقابية.
ثانيا: في الجانب الاقتصادي، من الممكن تعزيز اليات المراقبة والتقييم واعتماد الادارة والتمويل المعتمدة على النتائج بالاستفادة من أفضل الممارسات الدولية، ومن الضروري تحسين اليات المراقبة والتقييم باعتماد مؤشرات الاداء الرئيسية وربط هذه المؤشرات بالإدارة والتمويل للجهات المنفذة للسياسات، والعمل على تعديل السياسات في حالة تغير الظروف (خاصة الموارد المالية) بشكل كبير، من الضروري عمل الحكومة مع السلطة التشريعية للعمل معا بشكل عاجل لتعديل السياسات (القوانين والاستراتيجيات) في حالة بروز محددات غير منظورة بشكل عاجل (انخفاض اسعار النفط بشكل حاد مثلا والذي حدث في السنوات الاخيرة)، وذلك لتلافي حالات فجوة التنفيذ الناتجة عن قصور الموارد المتاحة عن الموارد المخططة. يضاف الى ذلك، اعادة النظر بتعليمات العقود الحكومية واصدارها بصيغة قانون متجدد يتماهى مع التطور المعرفي، ويلغي الروتين الاداري الذي يعتبر أحد أكبر منافذ الفساد المالي والاداري ويحقق معايير السلوك الوظيفي في معايير الجودة الشاملة.
ثالثا: زج جميع اصحاب المصلحة خلال مرحلة التخطيط في صياغة تطبيقات البرامج الحكومية، ووضع الاليات اللازمة لهذه المشاركة تعتبر من الفعاليات المهمة التي تساعد في إنضاج السياسات وتسمح بالاطلاع على مقترحات أو محددات أو مصالح وامكانيات الجهات ذات المصلحة مما يعزز من نضج هذه السياسات ويجعلها أكثر ملائمة للتنفيذ وبالتالي اقل عرضة لفجوة التنفيذ، مثل هذه المشاركة، تقوم على بناء شبكة الداعمين والمناصرين للبرامج الحكومية، ولكن من المؤسف ان هذا النشاط الاهم، من النشاطات المهملة في تنفيذ السياسات في العراق.
رابعا: ما دام القطاع الخاص، صاحب المصلحة الابرز في توجه الدولة نحو الاقتصاد الحر، لابد من تعظيم دوره في مواجهة فجوة التنفيذ باعتباره شريكا اساسيا في الحكم الديمقراطي وصاحب مصلحة حقيقية في مواجهة فجوة التنفيذ، وعدم الركون لانتظار ما تجود به تلك العلاقة مع العقود الحكومية على القطاع الخاص، بل العكس هو المطلوب ان يثابر القطاع الخاص في تعزيز العمل الجماعي من خلال الجمعيات والاتحادات في توحيد الرؤى والمواقف وتمثيل هذا القطاع قولا وفعلا في تعزيز تأثيراته على وضع السياسات الحكومية ،واهمية ان تكون هذه الاتحادات والجمعيات على درجة عالية من الفاعلية، والتفاعل مع مشاريع الاصلاح والاستراتيجيات بشكل بناء في الفضاء العام ومع السلطات التشريعية والتنفيذية وتوفير البيانات والتحليلات التي تساهم في إنضاج السياسات، وكذلك التفاعل مع شبكات الدعم والمناصرة. كما يمكن للقطاع الخاص ان يقود تطوير ممارسات العمل والتعاقد والتي يمكن ان تتحقق في جوانب متعددة، وذلك، على سبيل المثال، من خلال تطوير الحوكمة في الشركات الكبرى بشكل أكثر شفافية، العمل لتطوير معايير الجودة والسلامة في المصانع او في المنتوجات والعمل على تطوير شروط التعاقد لتشمل حقوق الملكية الفكرية معايير الجودة والسلامة.
الاستنتاج الاساسي من كلما تقدم، يمكن اختصاره في نموذج الارادة الوطنية الجمعية في اتفاق وطني، يلغي الاقتصاد الريعي ويتوجه لتطبيقات اقتصاد المعرفة عبر اعادة تأهيل القطاع العام بعقلية ادارة شركات رأسمالية، وليس بعقلية البطالة الاشتراكية، وشراكة مباشرة مع القطاع الخاص الوطني، من دون تبلور مثل هذا الاتفاق، تبقى فجوات التنفيذ في الروتين وعدم اعتماد مؤشرات جودة الاداء، حجر عثرة امام تلك الاستراتيجيات الوطنية او المعاهدات الدولية التي تحفز هذا التحول نحو الاقتصاد الوطني الاجتماعي ،كنموذج بديل في غلق تلك الفجوات، هذا نزف جرح مفتوح في جسد الاقتصاد العراقي يتطلب انتباهة موضوعية من الجميع لعل وعسى ان تنسجم الحلول الاقتصادية مع منطق نظام المحاصصة المتضارب معها !!








