
الشخصية العراقية... مرحلة ما بعد السقوط وتشوهات الشخصية

د. جمال العتابي
23/6/2025، 10:56:11 ص
ما أصاب الشخصية العراقية من تشوهات أفقدها كثيراً من خصائصها وسماتها الأصيلة التي اتسمت بها خلال عقود من الزمن، ولم تعد قادرة على الاستجابة لتحديات العصر ومتطلباته الراهنة، وليس بمقدورها استيعاب الصراعات والتناقضات والأزمات العميقة التي تحلّ بها، مما جعلها شخصية منقسمة على ذاتها إلى واحدة متسلطة قمعية وأخرى عاجزة نكوصية.
في هذا السياق تصدى الدكتور إبراهيم الحيدري في كتابه ( الشخصية العراقية.. مرحلة ما بعد السقوط وتشوهات الشخصية العراقية) الصادر عن مكتبة ودار نشر عدنان في بغداد 2019 إلى تشوهات الشخصية العراقية منذ الاحتلال الأمريكي، والنتائج التي ترتبت على الغزو، وما رافقها من تبدلات وتحولات بنيوية، أو ما تركته من تأثيرات على بنى الشخصية من النواحي الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية.
شكل احتلال العراق عام 2003 حدثاً مفصلياً في التاريخ المعاصر للبلاد، لم يؤثر على البنية السياسية والاقتصادية فحسب، بل ترك آثاراً عميقة على البنية الاجتماعية والنفسية للفرد العراقي. فضلاً عن التحولات الجذرية في تفكيك مؤسسات الدولة وإعادة تشكيلها على أسس طائفية وأثنية جديدة، وما نجم عنها من اهتزاز في الهوية الوطنية وتفكك النسيج الاجتماعي. حصل ذلك والبلاد ما تزال تعاني من آثار عقود من الحكم الديكتاتوري، والحروب العبثية، والعقوبات الاقتصادية، وتدني مستوى الخدمات العامّة. بناءً على تلك النتائج دخل العراق مرحلة انتقالية معقّدة وطويلة الأمد في تاريخه الحديث وهي مرحلة حرجة وعصيبة مملوءة بالفوضى والعنف والقلق، وعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي والنفسي، وهذا ما عرّض العراقيين إلى امتحان وجودي عسير وقاسٍ، وعليهم وحدهم الإجابة عن الأسئلة الشائكة التي تواجههم، بعد أن يدركوا ما هو كامن في نفوسهم، ويكتشفوا انقسام ذواتهم. وإذا أدركنا أن المجتمع العراقي الحديث كان قد تشكّل منذ تأسيس الدولة العراقية في بداية القرن العشرين، التي كانت نتاجاً مشوهاً لنمط الهيمنة الكولونيالية الذي ساد آنذاك، وأنها نتاج تكوين جماعات تحالف تقليدية وتشكيل نخب سياسية غير منسجمة مع الواقع، فإن البلاد مرّت في العقود الأخيرة من القرن الماضي بمدة حكم فردي شمولي ترك وراءه مجتمعاً مفككاُ ومنقسماً على ذاته إلى هويات فرعية متصارعة. لذا ندرك تماماً حجم التركة الثقيلة التي يحملها العراقيون على أكتافهم بعد أن هدّتهم الدكتاتورية والحصار، والقمع والاستبداد والأطماع الداخلية والخارجية.وأجهز على ما تبقى من أوصاله الغزو والاحتلال الذي تجاوز احتلال الأرض إلى احتلال العقل وتحطيمه، وجعل الانسان العراقي عاجزاً عن فكّ قيوده وكسرها. إن من السمات الرئيسة لمرحلة ما بعد انهيار النظام، الترابط الوثيق بين نظام المحاصصة الأثنية والطائفية والقبلية، وبين ثقافة العنف والإرهاب واستشراء الفساد وما أفرزه من أزمات بنيوية طالت أداء الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، وأنتج ضعف الدولة وروح المواطنة وتفكك الهوية وتشوه الشخصية العراقية. وأن هذه الأزمات المجتمعية فسحت المجال لتغلغل النفوذ الإقليمي والدولي، واستفحال دور الميليشيات المسلحة ونشاطها خارج سيطرة الدولة. كل ذلك وغيره إنما هو مؤشرات واضحة على تحلل القيم الاجتماعية والأخلاقية. وتفكك النسيج المجتمعي، وتصدّع البنى السيكولوجية التي عملت على خراب المجتمع وتشوّه الشخصية العراقية. إن تناول الشخصية العراقية بالدراسة والتفكيك والتحليل السسيولوجي يقوم أساساً على فهم علاقة الإنسان بالآخر وبالمجتمع وبالعالم المحيط به فهماً جدلياً، لأن الإنسان كائن اجتماعي يتأثر ويؤثر بما يحيط به إيجاباً وسلباً من حيث إشباع حاجاته المادية والمعنوية وإحباطاته فيها. وهي تطبع الشخصية بطابعها وتنعكس في تفكير الفرد في الحياة اليومية وعمله وسلوكه، وهذا ما حدث لجيل ما بعد انهيار النظام، الذي ضعف وعيه وركد تفكيره وتحللت قيمه ومعاييره وتشوهت شخصيته، فتخلف عن مواكبة الحداثة والتقدم الاجتماعي لأنه جيل محبط ومعنّف ومختلف تماماً عن الأجيال السابقة، ولد وتربّى وتعلم في أحضان ثقافة العنف والفوضى والفساد، مما سبب تحلل قيمه ومعاييره الاجتماعية والدينية والأخلاقية. يثير موضوع الانتقال من منظومة اجتماعية إلى أخرى، العديد من الإشكالات النظرية والتطبيقية، فالمنظومة الاجتماعية الجديدة لا تولد من فراغ، بل تنشأ مقدماتها في رحم المنظومة القديمة. وأي مجتمع بشري حين يتعرض لأزمة وجود ومصير عميقة، لابد أن يصنف من الناحية السايكولوجية إلى أنماط متنوعة بل ومتناقضة أحياناً من الشخصيات السائدة فيه، ولا معنى لتعميم نمط واحد من الشخصيات أو السلوكيات على كل أفراده، بمعنى أدق، إن المجتمع بمعناه السوسيولوجي هو المجتمع التاريخي لأنماط متباينة ومتنافسة من الشخصيات الاجتماعية في لحظة زمانية معينة. كان العراقيون يحلمون منذ عقود باليوم الذي يتخلصون فيه من أعتى النظم الشمولية، ويأملون باليوم الذي يحقق أحلامهم في بناء مشروع ديمقراطي يوفر لهم الحرية والامن والاستقرار والحياة الكريمة، في ظل حكومة وطنية عادلة. غير أنهم لم يجدوا سوى الفوضى وانعدام الأمن وتفشّي الفساد وحكومات محاصصية طائفية متصارعة ضاعفت من حالة اليأس والاحباط، وخلقت حالة من خيبات الأمل المريرة. لقد ترتب على الغزو والاحتلال تحولات بنيوية مهمة تركت نتائجها الوخيمة على المجتمع والدولة والشخصية العراقية يمكن إجمالها بالنقاط التالية:
- الاغتراب النفسي والاجتماعي، وتفكك الدولة وانتشار الفوضى.
- انتشار ثقافة العنف وغياب القانون.
- تراجع الثقة الاجتماعية، وتفشي ظاهرة الشك والخوف في التعاملات اليومية.
- تأزم الهوية الوطنية لحساب هويات فرعية.
- تزايد النزعة الفردية والانتهازية في ظل الفساد السياسي والمالي.
هنا ينبغي علينا أن نسأل: ترى هل يتحمل الفرد العراقي مسؤولية ما حدث؟ وهل هو المسؤول ما لحق ببلاده من تشظٍ ودمار؟
إن أي مجتمع بشري يتعرض لأزمة وجود ومصير عميقة، لابد أن يصنّف من الناحية السايكولوجية إلى أنماط متنوعة بل متناقضة أحياناً من الشخصيات السائدة، كما يرى الدكتور فارس نظمي في كتاباته عن الشخصية العراقية، ولا معنى لتعميم نمط واحد من الشخصيات أو السلوكيات على كل أفراده، بمعنى أدق، إن المجتمع بمعناه السوسيولوجي هو المصنع التاريخي لأنماط متباينة ومتنافسة من الشخصيات الاجتماعية في لحظة زمانية معينة. بناءً على ذلك يصنف نظمي الشخصية العراقية إلى شخصيتين رئيستين، هما: شخصية هدميّة عدوانية، وأخرى بنّاءة مسالمة، من دون تجاهل حقيقة أن كلتا هاتين الشخصيتين لها شخصياتها الفرعية العديدة. ويسلّط نظمي الضوء على الأسباب التي خلقت الشخصية العدوانية الهدميّة، ويعتقد انها تبلورت خلال نصف قرن من الانقلابات والاستبداد والحروب والاحتلال، بوصفها نتاجاً مباشراً للفعل السياسي السادي الذي بوشر بممارسته ضد الفرد العراقي بعد شهور قليلة من قيام النظام الجمهوري وحتى اليوم. هذه الشخصية تغلّب قيم الموت على قيم الحياة في سلوكها، موظفة شعارات (الوطن، الدين، الواجب، الفضيلة)، لتبرير أفعالها الهادمة لحياة الآخرين. أما الأنماط الفرعية لهذه الشخصية فتتمثل بـ :
1ـ الشخصية الهدمية الفاشية: نشأت على مدى أربعين عاماً في أقبية المؤسسة الأمنية والسياسية للنظام الديكتاتوري الفاشي السابق، تحكمها عقدة الاضطهاد والشك، ما تزال في أوج نشاطها بعد أن استبدلت وجهها السابق بأقنعة متأسلمة جديدة.
2ـ الشخصية الهدمية الإرهابية: تركيبة نفسية مسستحدثة منذ بدء الاحتلال.
3ـ الشخصية الهدميّة الطائفية: تبلورت ملامحها ببطء نسبي خلال الأعوام الأولى للاحتلال، واكتمل تكوينها في الأعوام التالية، سلوك الشخصية يتسم بالانتقام والتعصب الأعمى، وكلما زاد الاحباط الشخصي والاجتماعي للفرد وانغلقت أمامه السبل المشروعة للإصلاح واستعادة الحقوق، أصبح أكثر استعداداً إلى الاندفاع اللاعقلاني في البحث عن كبش فداء يحوّل ضده كل طاقة اليأس والحرمان والذل التي تغلي في أعماقه.
إن جيل ما بعد "السقوط" أو جيل الخراب هو نتيجة تداعيات التركة الثقيلة للنظام الشمولي السابق التي كوّنت تربة خصبة لولادة جيل مختلف تماماً عما سبقه من أجيال، نشأ وتربى وتعلم في أحضان ثقافة العنف والحروب والمآسي الدامية، جعلته مختلفاً في طرائق التفكير والسلوك. لا أبالياً وعاجزاً عن تحرير نفسه من التسلط والقمع المفروض عليه، ومواجهة التحولات والتحديات الاجتماعية بثقة وتمكن من امتلاك آليات الدفاع النفسي، إلا إن خطورة هذه الشخصية تكمن في امتداد هذا السلوك إلى أجيال جديدة تحمل ذات المعايير الاجتماعية. ما ينعكس سلباً على وحدة المجتمع، وهويته الوطنية والأخلاقية. إن ما توصل إليه الحيدري من نتائج نهائية تؤكد على أن تشوهات الشخصية العراقية لا تمثل أزمة فردية فقط، بل أزمة مجتمع بأكمله تتطلب معالجات عميقة وجذرية، مع التنبيه إلى ضرورة وجود مشروع وطني شامل لإعادة بناء الهوية الجامعة، وتعزيز الثقة بمؤسسات الدولة، خلاف ذلك، ستستمر الأزمات في إعادة إنتاج نفسها. ويصبح من المتعذر الإصلاح.








