
حروب التقويض الكبرى

د. محمد نعناع
27/6/2025، 12:41:40 م
أتذكر أني قرأت مقالاً لأحد الكُتاب القوميين خصصه للبحث في ملابسات ما يسمى "خيمة سفوان" بعنوان: (عندما واجه الشموخ العراقي الإملاءات الأمريكية) للتقليل من التنازلات التي قدمها نظام صدام في الثالث من آذار عام 1991 في مقابل أن يبقى نظامه حاكماً في العراق.
وكان هذا الفهم هو السائد في العراق والمنطقة والإعلام القومي، وتم ترويجه للتغطية على الخسائر الاستراتيجية التي أُصيب بها العراق، بل وصل الأمر إلى اعتبار العراق منتصراً لأنه واجه ثلاثاً وثلاثين دولة لوحده، في حين أن صدام عبر الناطق العسكري العراقي أعلن إيقاف الحرب في يوم 25 شباط 1991 (وهناك رواية أخرى يوم 28 شباط) ولكن قوات التحالف رفضت إيقاف الحرب وظلت تقصف الجيش العراقي لعدة أيام إلى أن انتزعت قراراً وتصريحاً مباشراً من صدام للانسحاب من الكويت، وتكبد العراق خسائر كثيرة بسبب تأخر صدام لمدة أسبوع تقريباً في موافقته على شروط الانسحاب، وبعد هذه اللحظة بدأ عمر النظام البعثي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكانت أنفاسا قصيرة في عمر النظام العالمي الجديد، ولكنها كانت طويلة على العراقيين، وعُد النظام محتضراً يُنازع من أجل البقاء فقط دون أن يتقدم ولا خطوة إلى الأمام، وكان بقاؤه رهناً بما يقدمه من مصالح للنظام الدولي، إلى أن جاءت لحظة 9 نيسان 2003 وأسفرت عن الخواء الحقيقي التام لنظام البعث، فأين الشموخ وأين الانتصار وأين مصلحة الوطن! لكن؛ كالمعتاد هذا هو الجو الطبيعي المتوقع للتبرير عن طريق التعبيرات المغلوطة في المجتمعات التي تحكمها الأنظمة الشمولية. من المتوقع جداً ان تمارس أمريكا نفس اللعبة التي مارستها مع العراق لتطبقها على طهران، فتجعل ما يحدث مع إيران حالياً إعداداً لما قامت به في العام 2003 مع نظام صدام، خصوصاً أن هناك تشابهاً في الكثير من الظروف، وهناك "شبه تطابق" في عدة مجالات بسببها سيتم تقويض دور الدولة أو إنهاؤها تدريجياً، وعندما نتحدث عن انهاء الدولة لانقصد إسقاطها، بل نقصد إضعافها وتحجيم تأثيرها، وتأثرها بالظواهر السلبية الناتجة عن ضعف المؤسسات كنتيجة مباشرة للحرب الأخيرة على إيران، ومن أوجه التشابه بين ما حصل لنظام صدام منذ العام 1991 إلى 2003 :
1- انهاء البرنامج النووي أو تقييده، بسبب الضربات الجوية المؤثرة، أو بسبب المفاوضات المقبلة.
2- انهاء البرنامج التسلحي أو محدوديته بفعل المراقبة الدقيقة لمواقعه وتوجيه ضربات خاطفة له، أو بسبب نفاذ المخزون التسلحي البالستي، خصوصاً مع استمرار العقوبات الاقتصادية على إيران.
3- انهاء القدرة الدفاعية، وتحديداً عدم القدرة على المواجهة الجوية، وهذه مسألة سيادية مهمة جداً.
4- انهاء القدرة الاستخبارية والمعلوماتية والتعرض السريع للاختراقات الجاسوسية.
5- زعزعة الإمكانيات الفنية في القطاعات الحيوية وانتشار الظواهر السلبية كالرشوة والمحسوبية.
6- انخفاض القيمة الحقيقية للعملة المحلية.
7- تراجع الانسجام المجتمعي، وإمكانية حدوث حركة إحتجاجية قوية تتأسس على أسس وطنية أو انفصالية.
وقبل ذلك تحققت عدة أهداف أمريكية كضغط العقوبات وعدم جدوى المسار التفاوضي، فالعقوبات دقت اسفينا بين إيران وجوارها، كما في مسألة شراء الكهرباء من قبل بغداد بالدولار، وقد تفلت بغداد قريباً من مسار السيطرة الإيراني وتستعين بالغاز الذي يزود المحطات الكهربائية من دول أخرى، كما أن مسار التفاوضات أنتج إملاءات مزمنة إذا التزمت بها طهران ستفقد سيادتها وفقاً لمنظورها كالسماح بنصب كاميرات في مفاعلاتها والسماح بجولات تفتيش لموظفي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. في الحرب الأخيرة وجهت واشنطن ضربة قاضية للمنشأت النووية في فوردو واصفهان ونطنز، وقبلها خربت إسرائيل البنية التحتية لمفاعلات أخرى كمفاعل أراك، وتم قصف منشأت حيوية كالمطارات ومقرات الحرس الثوري، واغتيال أكثر من 100 شخصية قيادية متقدمة في بنية النظام العسكرية والنووية، ورغم ذلك يعتقد الإيرانيون بأنهم قادرون على تعويض كل هذه الخسائر، رغم انها خسائر كبيرة، وكانت إسرائيل تعد لها منذ فترة طويلة، وتعتبرها ضربات استراتيجية فتاكة ستترك أثاراً كبيرة على المدى الطويل، ولربما ستقوض النظام وتفقده القدرة الانجازية التي كان يملكها قبل الحرب الأخيرة، وفي المقابل بثت إيران الرعب في قلب إسرائيل وسلطت عليها جحيم صواريخها المتطورة جداً، لقد أحالت طهران ليالي تل أبيب إلى ليالٍ سوداء حالكة، ونهاراتهم إلى فوضى عارمة، مرهبة المجتمع الإسرائيلي بالكامل. لكن ثمة فوارق واقعية بين الضربات الإسرائيلية على إيران، وبين الضربات الإيرانية على إسرائيل، ومنها:
1- الضربات الإسرائيلية كانت أكثر تركيزاً على مؤسسات الدولة وقواها العسكرية المتنوعة كالحرس الثوري والباسيج والمطارات والدفاعات الجوية، بينما تكررت الضربات الإيرانية على مناطق بعينها كوسط تل ابيب وعلى حيفا وأصابت أماكن مدنية يختبئ ساكنيها في الملاجئ اكثر من تواجدهم فيها، بالإضافة الى بعض الإصابات للمواقع ذات الدور الاستراتيجي كمراكز الأبحاث والقواعد العسكرية.
2- استطاعت إسرائيل تنفيذ اغتيالات مباشرة لرؤوس كبيرة في الحرس الثوري والعلماء النوويين، وهذا ما حاولت إيران فعله لكنها لم توفق فيه.
3- تمكنت إسرائيل من اختراق العمق الإيراني مخابراتياً واستخباراتياً ونفذت عمليات متقدمة، خصوصاً اثناء الضربة الأولى الصادمة، وهذا ما لم تقدر إيران عليه.
وعند القراءة الدقيقة لمعطيات الحرب سيتبين أن هدف ايران من الرد على إسرائيل محكوم بركيزتين فقط :
الأولى - الردع بقوة لإيقاف الحرب من أجل تقليل الخسائر التي تتعرض لها.
الثانية - إدامة الزخم الإعلامي والعاطفي الداعم لها من أجل إخفاء الضربات الاستراتيجية التي تتعرض لها.
ونجحت طهران في تثبيت هاتين الركيزين خلال الحرب، وزاد من وعي الإيرانيين بقدرتهم على تجاوز محنتهم تحت قصف مئات الطائرات لهم يومياً. اطواق النجاة التي كان يرميها لهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يزاحم نتانياهو بقوة على قهر ايران من خلال تحطيم برنامجها النووي، خصوصاً عندما قال مساء يوم 20 حزيران الجاري "إيران تواصلت معنا" ولكن هذا التواصل كان مملوءا بالاملاءات الامريكية لذلك رفضت طهران نتائج التواصل فقرر ترامب إرسال قنابل الــــ B2 وصواريخ التوماهوك على المنشأت النووية ليعلن مشاركة أمريكا رسمياً في الحرب مع إسرائيل ضد ايران. ولم يكن اسقاط النظام الإيراني أو اغتيال المرشد علي خامنئي ضمن أهداف الحرب على إيران، بل كانت الأهداف واضحة، وهي ثلاثة أهداف:
1- تدمير البرنامج النووي.
2- تدمير البرنامج التسلحي.
3- تدمير الدفاعات الإيرانية
وهذه الأهداف الثلاثة ستجعل من إيران دولة ضعيفة، وهذا هو الواقع الجديد الذي تريد واشنطن فرضه على طهران. ويبدو أن المحيط الذي يجاور ايران لم يساعدها في ورطتها، بل بعض جوارها كانوا عبئاً عليها، وهذا ما دعاها للاستجابة لترامب عندما قال يجب أن تتوقف الحرب، فتوقفت بأوامر منه، وبلا وساطات وصفقات أو اتفاقات، فالحديث عن تلك الوساطات والصفقات والاتفاقات لا تسنده حقائق على أرض الواقع، وكان كلاماً لتجميل الواقع القاتم الملبد بعدم الثقة. فإسرائيل ستكون جاهزة لخرق إيقاف الحرب من جديد، سيما مع استمرار تفوقها الجوي وعودة طائراتها الى مواقعها بدون أي اضرار من الدفاعات الإيرانية، وإيران ايضاً ستحتفظ بحقها بالرد وبنفس الطرق المعهودة، ما دامت تحرز أن الرد الإسرائيلي سيكون محدوداً ولا يسقط النظام، ومع علمها بأن التدخل الأمريكي سيتوجه مباشرة الى إرجاعها الى طاولة المفاوضات فقط.
الامر الذي سيطول النقاش فيه هو: هل أن إيران صمدت وستعود أقوى من قبل، أم وافقت على وقف الحرب حتى لا تتعرض إلى المزيد من الخسائر؟ ويُلحق بهذا السؤال المحوري سؤال أخر يوازيه بالأهمية: كيف ستجلس إيران على طاولة المفاوضات من جديد وقد عادت إلى موقع لا تمتلكه قبل الحرب الأخيرة؟! سيستمر الجدل حول هذه الأسئلة إلى أن تأتي لحظة الحقيقة، وهي أندر ما يتم تداوله في مجتمعاتنا المتخمة بالشعارات والحروب الجانبية التي تمهد لتقويض دولنا وتفتت وحدة نسيجنا الاجتماعي.








